بقلم: سليم عزوز
حسم المصريون القدماء، منذ زمن بعيد في مقولتهم الخالدة: “أسمع كلامك أصدقك، أشوف أمورك أتعجب”! الموقف من البون الشاسع بين الكلام والممارسة. وهكذا كان السيسي في خطابه في ما سمي بإفطار الأسرة المصرية؛ حيث الخلاف بين القول والعمل!
فقد كان لافتاً أن يذكر الجنرال عبد الفتاح السيسي الرئيس مرسي باحترام، للمرة الأولى منذ الانقلاب عليه، وقد نفى عن نفسه تهمة أن يكون قد انقلب عليه أو خانه، الأمر الذي احتارت البشرية في فهم دوافعه، لا سيما أن هذا التقدير يتنافى مع ما جاء في مسلسل “الاختيار3″، وقد اعترف الجنرال نفسه بأنه ينقل روايته، التي يراها الرواية الصادقة، في زمن انعدم فيه الصدق والشرف!
فشخصية مرسي في المسلسل هي شخصية مهزوزة، وتمثل الاضطراب النفسي، لرجل جاء إلى موقعه بالخطأ، فلم يكن قادراً على استيعاب اللحظة، وهو يواجه بضغوط من جماعته، ومقاومة من المقاوم الوحيد في المشهد السيد عبد الفتاح السيسي بشخصه وصفته!
وهي صورة فضلاً عن أنها غير واقعية، فإنها تستهدف الإساءة والحط من قدر الرجل، وهو بين يدي الله، لا يملك دفاعاً عن نفسه، أو ذكر الحقيقة، وعندما تكون هذه الصورة في المسلسل المعتمد كوثيقة من قبل السيسي، ثم يتحدث السيسي نفسه عن مرسي بتقدير، ولا يكتفي فقط بذكر اسمه مسبوقاً بلقب الرئيس ولكن أيضاً بطلب الرحمة له من الله عز وجل، فإن الأمر بدا مفاجأة للناس، لا سيما أنها المرة الأولى، بشكل دفع البعض للتحليق في الخيال، وتصور أنه يخطب ود جماعة الإخوان بذلك، وأن المصالحة آتية لا ريب فيها!
“إني أتفهم”
هي نغمة جديدة، ولا شك، وتختلف ليس فقط عن الرسالة التي يقدمها مسلسل الاختيار 3، ولكنها تختلف كذلك عن الممارسات التي ارتكبت ضد الرئيس الراحل، ولن أضع قواعد العدالة عند مناقشة هذه الحالة، إنما سأحتكم الى القواعد الإنسانية المجردة، فأستطيع أن اتفهم بالاحتكام إلى الدوافع الإنسانية، ما أرفضه بالأخذ بمنطق العدالة وحسب مفهوم الاستقامة السياسية!
ومن ثم، فقد أتفهم أن السيسي وجد نفسه قاب قوسين أو أدنى من كرسي الرئاسة، فاندفع ليجلس عليه مهما كان الثمن، وترتب على ذلك عزل الرئيس الذي يتحدث عنه الآن بكل تقدير!
وأتفهم أن يجعل محاكمته من خلف حاجز زجاجي، حتى يفقده التواصل مع أنصاره، باعتبار أن هذا لو حدث فسوف يجعل ممن اختطف الحكم بمثابة ريشة في مهب الريح، أو مخافة أن يظهر الرجل شجاعة يتمتع بها، فيحدث هذا فتنة لدى أنصار الانقلاب، السيسي في غنى عنها!
بل قد أتفهم أن تكون المحاكمة غير عادلة، ومفتقدة للإجراءات القانونية، فسجن الرئيس هو ثمن الكرسي المختطف!
بل قد أذهب بعيداً وأتفهم أن تكون الجنازة على النحو الذي كانت عليه، من الدفن ليلاً، وفي حراسة مشددة، والحيلولة دون تشييع جنازته بشكل طبيعي، لأنه يدرك ما يدركه المصريون جميعا بأنها ستكون جنازة حاشدة، تمثل استفتاء ضد من اغتصب السلطة، وبكل شعبية عبد الناصر وجماهيريته، فقد عز عليه أن تكون جنازة مصطفى النحاس بعد سنوات من التغييب والتشهير حاشدة، فاعتقل عدداً من الذين شاركوا فيها، ومنذ ذلك التاريخ يخشى العسكريون من شعبية الجنائز، والذين يعوضون انصراف الجماهير عن تشييعهم لمثواهم الأخير بصخب الجنازات العسكرية كما حدث مع السادات ومبارك!
إنما الشيء الذي لا يتقبله أي كائن حي، هي المعاملة التي عومل بها الرجل في محبسه، وقد بدا للعيان أنه يتعرض للتنكيل، ولم يكن لمثلي أن يتصور أنه وهو يطالب بجلسة سرية، أنه يود أن يقول للمحكمة فعلاً كلمات قد تعرض الأمن القومي للضرر، فقد كان يريد أن يعرض عليها ما يتعرض له في سجنه وقد حرم من أبسط حقوق أي سجين من الالتقاء بمحاميه وبالتريض والزيارات القانونية لأسرته له!
إن المشاهد لوقائع جلسات محاكمة الرئيس محمد مرسي بعد الجلسة الأولى يدرك تماماً أن المعاملة في أول جلسة كان فيها قدر ما من الاحترام، ربما لأن الحراك كان مشتعلاً في الشارع، وعندما أكبر الناس شموخ محمد مرسي في هذه الجلسة، كان لا بد من إذلاله فيما بعد، وهو ما كان واضحاً على ملامحه، وقد هدّه التعب، واشتكى من عدم توفير الدواء له، وهي الشكوى التي أمكن للرأي العام أن يستمع إليها!
ثم إن القاضي كان يتعمد اهانته، ولأننا ندرك أنه مسيّر لا مخيّر، فقد كان يمكن التنبيه عليه أن يحترم مقام الرجل، بل وأن يلتزم بقواعد المعاملة العادلة ولو من حيث الشكل، فليس دور القاضي أن يتحول إلى شرطي في دول العالم الثالث يهين الناس، ويتطاول على المتهمين. وقد رأينا الاحترام والتبجيل من جانب المحكمة لمبارك ونجليه وأركان حكمه، وقيل يومئذ إنها قواعد المحاكمات، فهل كانت المعاملة على النقيض هي أيضاً من قواعد المحاكمات؟!
وقد أتفهم سجن الرئيس المنتخب، لكن ما لا يمكن أبداً قبوله أن يكون سجناً بائساً وأن تساء معاملته على هذا النحو، ثم يكون مطلوباً أن نصدق خطاب “الرئيس مرسي الله يرحمه”، بحسن نية وسلامة طوية، فلا بد من البحث عن ما وراء هذا الخطاب.
ولن نذهب بعيداً، ففي تراث نظام الحكم في مصر ما يلزم في معركة الصراع على السلطة، دون أن يتطرق هذا إلى كسر أو اذلال المصارع إذا وقع من فوق جواده!
فلم يكن بين السادات ومن أسماهم بمراكز القوى في عهده خلافاً في السياسات، فقد خططوا وهم يملكون الدولة المصرية في الانقضاض عليه واعتقاله، وإذا عاجلهم هو بالقاضية وانتصر في معركة الصراع على السلطة، فلم يشكُ أحد منهم من سوء المعاملة في السجن، بل صالوا وجالوا في جلسات المحاكمة، مع أنها كانت محاكم استثنائية من ضباط لا قضاة!
لقد انتهى الأمر بالنسبة للسادات بالانتصار في المعركة، ولم يكن بداخله رغبة في التنكيل بخصومه الذين خططوا لعزله واعتقاله!
الأمر نفسه حدث بعد قرارات التحفظ المعيبة في أيلول/ سبتمبر 1981، ولم يكن في هذه الحالة يدافع عن حكمه، بل كان ينتقم من معارضيه، لكنه عندما بلغه أن فؤاد سراج الدين لا يستطيع لضخامة جسده الجلوس على الأرض، سمح بدخول كرسي له في زنزانته. ولم يكره السادات أحداً كراهيته لهيكل، لدرجة أن ثار وهاج وماج وهو يوبخ إبراهيم، نافع رئيس تحرير “الأهرام”، لأن “مانشيت” الجريدة عن المتحفظ عليهم تضمن اسم فؤاد سراج الدين يليه اسم هيكل!
وفقد صوابه وهو يقول له من هذا الجربوع الذي تضع اسمه بجانب اسم الباشا، فاته أن الجربوع والباشا من خصومه، وفاته كذلك أنه من أصدر قرار الاعتقال للجربوع والباشا، وفاته أن النشر ليس في سياق التكريم. ولعل وقائع هذه المكالمة المسكونة بالازدراء نقلت لهيكل بعد اغتيال السادات والإفراج عنه، فكان كتاب “خريف الغضب”، رغم طلب أسرة السادات من هيكل عدم جرحها بالكتابة عن عميد الأسرة، ووعده بأنه لن يفعل. وقد كان كتاباً غاضباً صدر برغبة الانتقام، فقد فيه هيكل لياقته المهنية وسيطرت عليه الرغبة في تشويه السادات!
ومن نافلة القول، أنه بوفاة السادات، كان قد دب الخوف في قلوب أنصاره من الكتاب، وإلى درجة أن إبراهيم سعدة، أكثر الذين تطوعوا بالهجوم على هيكل في جريدة “أخبار اليوم”، هو من استضافه في المؤسسة، وأجرى سلسلة حوارات مطولة معه نشرت على أسابيع متوالية، أجراها معه كبار الصحفيين بأخبار اليوم، قبل أن يتم الاتفاق معه على الكتابة أسبوعياً، وقد توقف بعد ثلاث مقالات لأسباب سياسية!
وغضبت “الأهرام” بيت هيكل، لأنه يختص “أخبار اليوم” بمقاله الأسبوعي، وعرضت أن تنشر المقال بالتزامن، لكن هيكل كان يشبع رغبة الانتقام لديه، في أن يكون في الجريدة التي هاجمته، وفي المؤسسة التي يوجد فيها خصمه التاريخي وأستاذه السابق مصطفى أمين!
وليس هذا موضوعنا، فرغم هذا العداء الذي يكنه السادات لهيكل، فقد سمح له بوضع متميز في السجن، يسمح بإرسال زوجته له الطعام يومياً في محبسه، مع وردة شهيرة كتب عنها هيكل ومن كانوا معه في زنزانته التي كانت تضم عددا من كبار السياسيين، على رأسهم فؤاد سراج الدين!
فقد شفيت نفس الحاكم بسجن معارضيه، ولا معنى للتنكيل بهم، وهو ما كان يمكن قبوله في حالة السيسي، لا سيما أنه يبني موقفه على أنه ليس خيانة، ولكنه مضطر لذلك حماية للبلد، وإن عزل “الرئيس محمد مرسي الله يرحمه” فمجبر أخاك لا بطل!
التنكيل بالأسرة
إن السيسي لم يكتف بالتنكيل بالرئيس محمد مرسي الله يرحمه، ولكن التنكيل انصرف أيضا الى أسرته، ولن نتحدث عن ما جرى لابنه الأصغر الذي لقى حتفه، في وفاة يكتنفها الغموض، لأنه يستطيع أن ينفي عن نفسه وعن أجهزته التهمة، لكن لا يمكن أن نتجاهل سجن ابن مرسي الأكبر إلى الآن بسبب موقفه المنحاز لوالده وماذا كان يُطلب منه. والسيسي هو من يعيد ويزيد في مفهوم الوفاء، الوفاء للمشير، والوفاء لمرسي، وأخيراً الوفاء لوالدته على النحو الذي جاء في مسلسله “الاختيار 3″، مع كل ما ورد من مبالغات أضحكت الثكالى!
وحتى لو تصرف الابن على النحو الذي لم يرتضيه الحاكم الضرورة، فقد كان بالإمكان الاعراض عن ذلك، بل كان من الإمكان تكليف من يعرف طلبات أسرة الرئيس، ويعمل على تنفيذها باعتباره رئيسا سابقاً لمصر، ليظل الصراع على السلطة في حدوده لا يتجاوزها إلى ما هو إنساني وما هو حق وما هو قانوني!
وإذا كانت هذه هي التصرفات، وبالأكاذيب التي وردت في المسلسل عن طعام الرئيس والانفاق المبالغ فيه، وما رددته الصحافة الصفراء ونفاه الجهاز المركزي للمحاسبات، فعندما يأتي السيسي بخطاب “الرئيس مرسي الله يرحمه” من الطبيعي أن يثير هذا الاستغراب!
إن أزمة السيسي النفسية التي تسيطر عليه والتي أراد أن يعالجها بمسلسله، هو أنه صار موصوم بأنه خائن، خان رئيسه، كما خان المشير طنطاوي، وإذ فشل المسلسل في تحقيق العلاج له، لأن الناس لم تصدقه، فكان حديث الرئيس مرسي الله يرحمه، لكي يبرئ نفسه من تهمة الخيانة!
ومن الواضح أن الرجل تحاصره الأزمات من كل مكان، فكانت هذه القفزة لعلها تنجح فيما فشل المسلسل فيه، ولا تنسى كذلك أنه ذكر اسم الفريق أحمد شفيق لأول مرة في هذا الخطاب العاطفي، وكأننا نسينا أنه جيء به من الإمارات مهاناً، ويقيم في مصر فيما يشبه الإقامة الجبرية!
وأمام هذا العجز وقلة الحيلة، ربما يستشعر السيسي نفسه ما لا نستشعره، لتحضر العاطفة ويكون هذا الخطاب غير المسبوق، من واحد ليس بإمكانه الا أن يقدم معسول الكلام، الذي يراه بديلاً عن العمل!
“أسمع كلامك أصدقك.. أشوف أمورك أتعجب”!