تمر الذكري الحادية عشر لانقلاب الثالث من يوليو، وتعيش مصر خلالها
وبعد أحدَ عشرَ عامًا من الانقلاب العسكري نتدارس سويًا ماذا خسرت مصر والمصريين من ويلات الانقلاب العسكري:
سياسيًا:
أمم الانقلاب الحياة السياسية، فقتل السياسة، وحول كافة السياسيين، حتى الذين أيدوا انقلابه في بدايته، إلى مواطنين لاحول لهم ولاقوة، بعد أن رفعت قاماتهم مشاركتهم في ثورة الخامس والعشرين من يناير. أصبحت السياسة في مصر تُدار من مكاتب الأجهزة الأمنية، ومن انتوى فقط الترشح للانتخابات الرئاسية دون استئذان السيسي وأجهزته الأمنية يقبع الآن في غياهب السجون أو رهن الإقامة الجبرية في منزله، حتى كبار القادة العسكريين. وفي الانتخابات البرلمانية الشكلية، جيشت السلطة أحزاب مكونة من عسكريين تصدق على اختيارات الأجهزة الأمنية للبرلمانيين المرشحين لتضمهم على قوائمها. ومن حاول تأسيس حزب أم خوض الانتخابات ظناً منه بأن المشاركة مسموح بها مهما كانت النتائج معدة سابقاً غيبتهم السلطة في سجونها سيئة السمعة. ووصل تأميم الحياة السياسية في مصر إلى أن السياسيين والقوى السياسية تحتاج بالضرورة إلى استئذان الأجهزة الأمنية المختلفة حتى في القيام بفاعلية تضامنية مع الشعب الفلسطيني الذي يُباد في قطاع غزة. وتفردت وسائل السلطة في تكميم الحياة السياسية بين التهديد المباشر، بالاعتقال والحبس الاحتياطي المخالف للقانون والاخفاء القسري وربما القتل خارج إطار القانون كما حدث للباحث الإيطالي جوليو ريجيني عام 2016، كما تستخدم السلطة قوانين مكافحة الإرهاب لمعاقبة من يرفع صوته بالمعارضة، كما وسعت السلطة من استخدام مصطلح الإرهاب و تهم الانضمام لجماعة إرهابية ضد كل من تسول له نفسه بمعارضتها.
أما على صعيد الأمن القومي المصري، فحدث ولاحرج. ففي العاشر من أكتوبر من عام 2023، صرحت سلطة الانقلاب بأنه لا تهاون أو تفريط في أمن مصر القومي تحت أي ظرف.
وعكس مثل هذه التصريحات التي تم خداع المصريين بها، عملت سلطة الانقلاب منذ اليوم الأول على تعريض الأمن القومي لمصر للخطر، بل وتقويضه من خلال العديد من الممارسات والسياسيات نذكر منها على سبيل المثال، لا الحصر:
اتفاقية التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للمللكة العربية السعودية بعدما تم الضرب بعرض الحائط بالدستور الذي يجرم التنازل عن أي شبر من أرض مصر، وضرب بعرض الحائط أيضاً بأحكام القضاء التي أقرت بمصرية الجزيرتين، بل واعتقل كل من تظاهر دفاعًا عن مصرية الجزيرتين. إن ما فعلته سلطة الانقلاب بالتنازل عن تيران وصنافير لم يجرؤ أن يقوم به كل من احتل مصر قديمًا، أو حديثًا.
وفي عام 2015 وقع على اتفاق المبادئ مع كلًا من السودان وإثيوبيا الذي شرعن بناء إثيوبيا لسد النهضة الذي يحرم مصر، للمرة الأولى في التاريخ أيضًا من شريان الحياة لشعبها، وحقها التاريخي في مياه النيــــــــــــــل. والمثير للعجب في قضية سد النهضة، أنه كان أحد الشائعات الكاذبة التي روجت ضد الرئيس الشهيد محمد مرسي -رحمه الله-، بل واتهمت أذرع الأجهزة الأمنية الإعلامية الرئيس محمد مرسي -رحمه الله- بالتفريط في أمن مصر المائي، وإذ بالواقع يثبت للمصريين من هو الذي فرط في أمن مصر، ليس فقط المائي، بل في أمن مصر القومي بكل ما تحمله الكلمة من معاني. يقف المصريون ألأن أمام مشهدين: أولهما للرئيس محمد مرسي وهو يصرخ ويصرح ويقول ” إذا نقصت مياه النّيل قطرة واحدة فدماؤنا هي البديل”
مقارنة بمشهد تلقين رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد القسم ثلاثاً بعدم إلحاق الضرر بمصر فيما يخص حصة مصر مياه النيل، وذلك في خضم مشاورات لإنهاء هذه الأزمة.
ووصل تفريط السلطة المنقلبة في مصر في الأمن القومي للبلاد للحد الذي تحتل فيه قوات الاحتلال الصهيوني الجانب الفلسطيني من معبر رفح الحدودي بين مصر وقطاع غزة وتضرم فيه النيران على بُعد أمتار قليلة من الحدود المصري وتحتل معبر صلاح الدين “فيلادفيا” في انتهاك غير مسبوق لاتفاقية ما يسمي السلام بين مصر والكيان الصهيوني وتقتل جنودًا مصريين.
أما على المستوى الحقوقي، فالكارثة أكبر من وصفها في هذا التقرير. ولعلنا نحاول أن نلخص ما يمكن تلخيصه من الكوارث والجرائم التي ترتكبها السلطة المستبدة في مصر التي جاءت بانقلاب عسكري من على لسان الحليف الأكبر لها في العالم وهي الإدارة الولايات المتحدة الأمريكية التي نشرت وزارة خارجيتها تقارير دورية عن حالة حقوق الإنسان في مصر وجاء في آخرها:
شملت قضايا حقوق الإنسان الهامة تقارير موثوقة عن: عمليات القتل التعسفي أو غير القانوني، بما في ذلك عمليات القتل خارج نطاق القضاء؛ الاختفاء القسري؛ التعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة بواسطة الحكومة؛ ظروف السجن القاسية والمهددة للحياة؛ الاعتقال والاحتجاز التعسفي؛ مشاكل خطيرة تتعلق باستقلال القضاء؛ قضايا السجناء أو المعتقلين السياسيين؛ القمع العابر للحدود الوطنية ضد الأفراد في بلد آخر؛ التدخل التعسفي أو غير القانوني في الخصوصية؛ ومعاقبة أفراد الأسرة بسبب جرائم مزعومة ارتكبها أحد الأقارب؛ الانتهاكات الجسيمة في النزاع، بما في ذلك الاختفاء القسري والتعذيب؛ التجنيد غير القانوني للأطفال أو استخدامهم في النزاعات المسلحة بواسطة الميليشيات القبلية المدعومة من الحكومة؛ فرض قيود خطيرة على حرية التعبير وحرية الإعلام، بما في ذلك الاعتقالات أو الملاحقات القضائية غير المبررة للصحفيين، والرقابة، وإنفاذ قوانين التشهير الجنائية أو التهديد بإنفاذها للحد من حرية التعبير؛ والقيود الخطيرة على حرية الإنترنت؛ التدخل الكبير في حرية التجمع السلمي وحرية تكوين الجمعيات، بما في ذلك القوانين المقيدة بشكل مفرط بشأن تنظيم أو تمويل أو تشغيل المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني؛ القيود المفروضة على حرية التنقل والإقامة داخل أراضي الدولة والقيود على الحق في مغادرة البلاد؛ والقيود الخطيرة وغير المعقولة على المشاركة السياسية؛ الفساد الحكومي الخطير؛ والقيود الحكومية الخطيرة والمضايقات لمنظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية.
لم تكتفِ السلطة غير الشرعية بهذا، بل بلغ الأمر من السوء أن تقبع مصر في المرتبة 136 من أصل 142 دولة في مؤشر سيادة القانون على مستوى العالم. وتُعتبر سيادة القانون أحد الأبعاد الرئيسة التي تحدد جودة إدارة البلد وحسنها. عرّفت الأبحاث -مثل مؤشرات الحوكمة العالمية- مصطلح سيادة القانون على النحو التالي: «هو مدى ثقة العملاء والتزامهم بقوانين المجتمع، لا سيما جودة إنفاذ العقود والشرطة والمحاكم، فضلًا عن احتمال مظاهر الجريمة أو العنف». بناءً على هذا التعريف، عمِلَ برنامج مؤشرات الحوكمة العالمية على تطوير معايير كلية لسيادة القانون في أكثر من 200 دولة.
وكانت الطامة الكبرى حين ارتكبت هذه السلطة المستبدة أكبر مجزرة بشرية عرفها التاريخ المصري الحديث بارتكابها مجزرة رابعة في 14 أغسطس/آب 2013، والتي قتلت فيها قوات الأمن مئات الأشخاص مع الإفلات التام من العقاب، بل وصل حد فجر السلطة في الخصومة أن تحاكم الضحايا في أكبر محاكمات في التاريخ المصري، فلم تكتفِ بقتلها للأبرياء، بل حاكمت، ولاتزال تعتقل عشرات الألاف منهم في ظروف أقل ما يمكن وصفها به أنها قاتلة، وتمارس عليهم سياسات ممنهجة للقتل البطئ والمتعمد.
أما على المستوى الاقتصادي، فقد تحولت حياة المصريين إلى الجحيم لا يطاق بسبب سياسات اقتصادية فاشلة التي راهن النظام فيها على قوة تحمل المصريين، إلا أنه وفي الآوانة الأخيرة، رفع المصريون صوتهم عاليًا على مواقع التواصل الاجتماعي مطالبين بعدم الرهان على قوة صبرهم وتحملهم، لأأنه طفح الكيل بهم، ولم يعودوا قادرين حتى على تحمل موازنة شراء رغيف العيش الذي رفع الدعم عنه في سابقة هي الأولى تاريخيًا.
ومن المسّلم به أن هذا النظام عاش على المعونات والقروض بالقدر الذي لم تحصل عليه مصر في تاريخها الحديث، سواء من دول الخليج أو حتى من الغرب والمنظمات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدولي للدرجة التي أتت فيها مصر في عهد هذه السلطة في المرتبة الثانية لقائمة الدول الأكثر استدانة من الصندوق بقروض قيمتها 14.9 مليار دولار بعد الأرجنتين. ورغم كل هذا يقبع أكثر من نصف المصريين تحت خط الفقر بسبب أن السلطة أنفقت مليارات الدولارات على مشروعات تروج فقط لبقائها ولا تخدم القطاع الأكبر من الشعب.
دفعت الأزمة الاقتصادية الطاحنة في البلاد بالبنك المركزي والحكومة إلى تعويم الجنيه المصرية أكثر من مرة ليفقد حوالي اضعاف مضاعفة من قيمته أمام الدولار الأمريكي. في تشهد البلاد أسوأ أزمة اقتصادية منذ عقود، خفضت بالفعل قيمة عملتها ثلاث مرات منذ بداية عام 2022، ومع ذلك، لا يزال هناك نقص مزمن في الأموال النقدية، الأمر الذي يزعج الشركات لأنها تجد صعوبة في دفع ثمن التكاليف التشغيلية الضرورية.
تراجعت قدرة البلاد على تحمل الديون، مع استمرار نقص النقد الأجنبي في مواجهة زيادة مدفوعات خدمة الدين العام الخارجي وغياب التدابير لتعزيز احتياطي النقد الأجنبي. الفساد السياسي، والنقص المزمن في الغذاء والدواء، وإغلاق الشركات، والبطالة، وتدهور الإنتاجية، والاستبداد، وانتهاكات حقوق الإنسان، وسوء الإدارة الاقتصادية الصارخ ساهم أيضا في تفاقم الأزمة. وصلت الأزمة إلى قطع الكهرباء عن عموم البلاد من 3 ساعات يوميًا لتخفيف الأحمال مما تسبب في أزمات خانقة وتوقف بعض شركات الأسمدة عن العمنل لنقص الغاز الطبيعي. على الرغم من الدعاية الحكومية لحقل ظهر حين قالت إن حقل ظهر أكبر حقل غاز وسيمكن مصر من الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي، إلا أنه في ابريل 2024 أعلنت الحكومة العودة إلى سياسة تخفيف الأحمال للتيار الكهربائي لمدة ساعتين في اليوم التي ارتفعت في الأيام القليلة القادمة إلى 3 ساعات يوميًا في كل عموم مصر.
أغرقت السلطة المنقلبة مصر في ديون لن تستطيع حتى الأجيال القادمة من سدادها. ففي عام 2022، سجلت مصر دينًا حكوميًا إلى الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 87.20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وبلغ متوسط الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي في مصر 88.17 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة من 2002 حتى 2022، ووصل إلى أعلى مستوى له على الإطلاق عند 103.00 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017 وسجل رقمًا قياسيًا. أدنى مستوى بلغ 73.30 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2009. وتبلغ خدمة الدين المصري من أقساط وفوائد الديون حوالي 42.3 مليار دولار خلال العام 2024، وهي أعلى فاتورة على الإطلاق مطلوب سدادها في عام واحد، بعد أن قفز الدين الخارجي إلى نحو 165 مليار دولار واحتياطي نقدي لا يتجاوز 35.2 مليار دولار. خلال الفترة من 2014 إلي 2024 تضاعف إجمالي الديون الخارجية المستحقة على مصر. حيث بلغ إجمالي الدين الخارجي بنهاية الربع الأول من العام 2023 نحو 165.4 مليار دولار. كشف البنك المركزي المصري، أن قيمة الديون الخارجية المستحقة السداد من جانب مصر، تساوي نحو 29.229 مليار دولار خلال عام 2024.
تغول الاقتصاد العسكري على كافة مناحي الحياة في مصر مما تسبب في الكثير من الأزمات لأن لشركات المملوكة للجيش معفاة من الضرائب، حيث ينص القانون على ألا تدفع القوات المسلحة ضريبة القيمة المضافة على السلع والمعدات والآلات والخدمات والمواد الخام اللازمة لأغراض التسلح والدفاع والأمن القومي. واستنادًا إلى بيان أصدرته السلطة في عام 2016، يمثل الجيش ما بين 1.5 إلى 2 في المئة من الاقتصاد المصري (2.39 مليار دولار إلى 4.46 مليار دولار). تنامي البصمة العسكرية وسيطرتها على السياسة الاقتصادية من السمات المميزة لهذا الانقلاب الحاكم وأحد جذور أزمة الديون الحالية. والواقع أن أحد الشروط الرئيسية لقرض صندوق النقد الدولي التي حصلت عليه في 2016 بقيمة 3 مليار دولار يتلخص في إصلاح البنية الإدارية لهذه الكيانات، وإنهاء إعفاءاتها الضريبية، وتوفير فرص متكافئة للقطاع الخاص.
احتلت مصر وفقا للبنك الدولي المركز الأول في الدول الأكثر تضررًا من تضخم الغذاء في نهاية 2023، كما شهدت ارتفاعات متتالية في المؤشرات العامة للتضخم خاصة في أسعار الغذاء، بسبب الخفض المتتالي لقيمة الجنيه مقابل الدولار منذ 2016 وارتفاع فاتورة واردات الغذاء. في 10 اغسطس 2023، واصل معدل التضخم السنوي في مصر، ارتفاعه مسجلًا مستوى قياسيا جديدا عند 36.5% في يوليو 2023، وجاءت هذه الزيادة مدفوعة بارتفاع أسعار قسم الطعام والمشروبات بنسبة 68.2 %.التضخم جاء نتيجة استمرار نفس العوامل المسببة لزيادة سعر السلع والخدمات محليًا خلال الشهور الماضية، وأبرزها ارتفاع أسعار السلع الاستراتيجية عالميًا، وانخفاض سعر صرف الجنيه أمام الدولار، وتحجيم الاستيراد.
هذه أمثلة بسيطة لما جنته مصر وجناه المصريون من الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو من عام 2013.
إن واجب اللحظة الآن هو التوحد والتآلف لوضع رؤية يقبل بها السواد الأعظم من هذا الشعب، وتُبنة هذه الرؤية على هدف رئيس وهو التخلص من الفساد والاستبداد بالعمل السلمي، كما نحذر أن عواقب سياسات التجويع والعودة بالشعب إلى عصور الظلام ستؤدي لامحالة إلى انفجار، لا يتمناه أي وطني محب لهذا الوطن لأنه سياتي على البقية الباقية من وطننا الغالي. إن الوطن الذي دفع ألاف الشهداء دمائهم ثمنًا لحريته وعيشه الكريم يصرخ في ضميرنا جميعًا هبوا يا مصريين لإنقاذ ما تبقى من مصر.
وإلى مؤسسات الدولة المصرية نتوجه لهم قائلين:
يجب أن يبقى ولائكم إلى الوطن وإلى الشعب المصري، لا إلى سلطة مستبدة زائلة لا محالة، فالوطن باقي والحكام زائلون. ولتتذكروا أننا على نهج الرئيس الشهيد محمد مرسي رحمه الله لسنا في عداء مع أي من مؤسسات الدولة، وإنما نقف مناهضين لمن عرض الأمن القومي المصري للخطر، ولمن أحال حياة الشعب المصري إلى جحيم لا يطاق.
وفي النهاية نوجه أسمى آيات العرفان والتقدير إلى أول رئيس مدني انتخبه المصريون، الرئيس الشهيد محمد مرسي، الذي دفع حياته ثمنًا لحرية وكرامة المصريين، ونقول بأننا على عهده ماضون، داعين وباذلين كل الجهد من أجل استعادة كل ما عاش من أجله ومات عليه.
وعاشت مصر حرة مستقلة وعاش شعبها حر عزيز.