المقدمة:
لطالما حملت الحدود المصرية الإسرائيلية ميراثًا ثقيلًا من الأحداث الكبرى والتقاطعات المعقدة للتاريخ والجغرافيا والحروب والسياسة، وعبر عقود متعاقبة منذ توقيع معاهدة السلام بين مصر واسرائيل لم تهدأ على المستويات الرسمية -سواء علانية أو من وراء ستار- سياسات التطبيع بين البلدين على جميع المحاور، وإن نجحت نسبيًا هذه الجهود التطبيعة على بعض الأصعدة السياسية والتجارية والعسكرية، إلا أن تلك الجهود طالما تحطمت على صخرة الرفض الشعبي للتطبيع مع الكيان الصهيوني.
ثم من حين لآخر تتفاجأ الأنظمة الدولية والعربية قبل الشعوب بتلك العمليات النوعية والاشتباكات الحدودية المصرية – الإسرائيلة غير المتوقعة التي ينفذها الجنود المصريون، لتأتي بعد ذلك ردود الأفعال الشعبية المحتفية والفخورة بشهدائها لتؤكد أن عداوة إسرائيل راسخة ومتجذرة داخل الضمير الجمعي ليس للشعب المصري فقط بل والشعوب العربية أيضًا بكل أطيافها، وأن إسرائيل كانت ومازالت هي العدو الأول والتهديد الإستراتيجي الأكبر للوطن والأمة.
وجاءت آخر هذه الإشتباكات في يوم الإثنين ٢٧ مايو ٢٠٢٤ في سياق تاريخي غير مسبوق من التوتر والشحن المعنوي ضد إسرائيل على المستوى الشعبي بسبب اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة منذ أحداث طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣.
نستعرض في هذا التقرير جوانب تحليلية لهذه النوعية من الاشتباكات الحدودية منذ اتفاقية السلام في مارس ١٩٧٩، خاصة تلك الحوادث التي قام بها جنود مصريون استهدفوا خلالها جنودًا وأفرادًا إسرائيليين عبر الحدود، وكذلك نستعرض أبعاد هذه الاشتباكات ورمزيتها الشعبية ودلالتها بالنسبة للعقيدة العسكرية المصرية.
الحدود المصرية الإسرائيلية:
هذه الحدود تعتبر حدوداً جيوسياسية بامتياز وتحظى باهتمام خاص على المستويين الإقليمي والدولي، وهي فاصلة بين الطرف الشمالي الشرقي لشبه جزيرة سيناء المصرية وأراضي صحراء النقب الجنوبية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وهي أيضًا تفصل بين بؤر صراعات تتسم بالصفرية الواضحة وذات مرجعيات عقائدية راسخة، وعبر تاريخ معقد لطالما مرت هذه المنطقة بمراحل متقلبة ما بين الأحداث الساخنة التى تصل للمعارك والحروب، وأخرى تتسم ببعض الهدوء المرحلي ثم ما تلبث أن تعود إلي صخب التوتر وإلى صدارة بؤرة الأحداث الإقليمية والدولية.
(١) السياق التاريخي:
ظلت هذه المنطقة الحدودية محور خلاف مستمر عبر التاريخ القديم والحديث نظرًا لموقعها الاستراتيجي الفاصل بين قارتي أفريقيا وآسيا. وسيطرت عليها دول كبرى تاريخية، بما في ذلك الدولة العثمانية مرورًا بالاحتلال البريطاني وحتى إعلان قيام دولة إسرائيل.
(٢) الحرب العربية الإسرائيلية عام ١٩٤٨
بعد إعلان قيام دولة إسرائيل، شن عدد من الدول العربية بما في ذلك مصر، حربا ضد الدولة المشكلة حديثًا. وأسفرت الحرب عن تغييرات إقليمية كبيرة، بما في ذلك السيطرة المصرية على قطاع غزة ومنطقة الحدود الحالية بين مصر وإسرائيل .
(٣) هزيمة ٥ يونيو عام ١٩٦٧
شنت إسرائيل ضربة استباقية ضد مصر وسوريا، مما أدى إلى توغل إسرائيل براً عبر الحدود المصرية-الإسرائيلية إلى داخل شبه جزيرة سيناء وكذلك السيطرة على قطاع غزة والضفة الغربية ومرتفعات الجولان، وبعد توقف حرب الستة أيام احتل الكيان الإسرائيلي سيناء بالكامل.
(٤) معاهدة السلام المصرية/الإسرائيلية
مهدت اتفاقيات كامب ديفيد إلى مفاوضات السلام بين مصر ودولة الاحتلال، مما أدى إلى توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979. وكجزء تنفيذي من المعاهدة، وافقت دولة الاحتلال على الانسحاب من شبه جزيرة سيناء مقابل تطبيع العلاقات مع مصر. وتم ترسيم الحدود بين البلدين وإنشاؤها بوضعها الحالي.
(٥) سيناء والتجريد من الأسلحة الثقيلة والقوات طبقاً لترسيم المناطق
تضمنت معاهدة السلام أحكامًا بشأن تجريد شبه جزيرة سيناء من السلاح وكذلك أعداد ونوعية القوات، مع فرض قيود على الوجود العسكري والأنشطة العسكرية في مناطق معينة قسمت إلى المناطق أ، ب، ج، د، ومن ثم تم إنشاء القوة والمراقبين المتعددي الجنسيات، وهي قوة دولية لحفظ السلام تتواجد على أرض سيناء لمراقبة الالتزام بالمعاهدة.
(٦) تطورات ما بعد المعاهدة
في حين أدت معاهدة السلام إلى تطبيع العلاقات بين مصر وإسرائيل، كانت شبه جزيرة سيناء دائمًا مسرحًا لتحديات تواجه التطبيع وفرض الأمن المفترض، بما في ذلك تواجد الجماعات المسلحة وعمليات التهريب. وقد بذلت مصر وإسرائيل على المستوي الرسمي جهودا وتنسيقات متبادلة لمواجهة هذه التحديات، بما في ذلك العمليات العسكرية والتعاون المعلوماتي واللوجستيي مع الكيان الإسرائيلي والشركاء الدوليين.
(٧) مرحلة السياج الحدودي
دشنت دولة الاحتلال عملية بناء سياج حدودي فاصل مع مصر في ٢٢ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٠ بطول ٢٤٥ كيلو مترا (١٥٢ ميل) يمتد من مدينة رفح المصرية -نقطة تقاطع الأراضي المحتلة مع قطاع غزة- شمالاً وإلى أم الرشراش (إيلات) على خليج العقبة/البحر الأحمر جنوباً.
أنشأت دولة الاحتلال أيضاً طريقاً موازيا بطول السياج لضمان حركة مركبات الدوريات الحدودية الإسرائيلية، وتم تزويد السياج ببعض منافذ الطوارئ في أماكن متفرقة على طول السياج – استخدم الجندي محمد صلاح أحد هذه المنافذ للدخول إلى الأراضي المحتلة وتنفيذ العملية التي تمكن خلالها من قتل ٣ جنود إسرائيليين -.
الاشتباكات الحدودية التي بادر بها جنود مصريون منذ توقيع إتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية
عملية رأس برقة ٥ أكتوبر/تشرين الأول ١٩٨٥
في الأيام الأخيرة لفترة تجنيده، وقبل غروب شمس يوم ٥ أكتوبر ١٩٨٥ بقليل، وأثناء قيامه بنوبة حراسته المعتادة بمنطقة رأس برقة (جنوب سيناء) في النقطة ٤٦ فوجئ الجندي/ سليمان محمد عبد الحميد خاطر بمجموعة من الإسرائيليين يحاولون تسلق الهضبة، التي تقع عليها نقطة حراسته، والتي يصل ارتفاعها نحو ١٥ مترًا.
حذرهم بالإنجليزية من التقدم داخل المنطقة العسكرية المحظورة، وكرر تحذيره بصوت عال ٣ مرات غير أنهم واصلوا سيرهم، فأطلق طلقات رصاص تحذيرية إلى السماء لكنها لم تجد استجابة، مما جعله يصوب سلاحه ناحيتهم ليقتل ٧ إسرائيليين ويصيب ٤ آخرين بإصابات مختلفة.
بعد الحادث سلم سليمان نفسه لقيادته ولاحقًا تم محاكمته أمام محكمة عسكرية – رغم أن تجنيده كان تابعًا للأمن المركزي (شرطة) – والتي حكمت عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، وفي ٧ يناير ١٩٨٦ وُجد مشنوقًا في زنزانته في ظروف غامضة.
تأثر الرأي العام الشعبي بقوة بما مر به خاطر واندلعت المظاهرات التي رفضت الرواية الرسمية لإنتحار خاطر، وتحول سليمان خاطر تدريجياً إلى رمز تاريخي وبطل شعبي في ذاكرة ووجدان الشعب المصري.
لمحات من حياته
ولد سليمان خاطر عام ١٩٦١ في قرية أكياد البحرية التابعة لمركز فاقوس بمحافظة الشرقية، ينتمي لأسرة بسيطة وهو الابن الخامس والأخير لها.
في طفولته عاصر نكسة ٥ يونيو ١٩٦٧ وحرب الاستنزاف ونصر ٦ أكتوبر ١٩٧٣، ومن المشاهد التي أثرت في ذاكرة طفولته، قصف سلاح الجو الإسرائيلي لمدرسة بحر البقر الإبتدائية في ٨ إبريل ١٩٧٠ حيث كان يبلغ حينها التاسعة من عمره، وطبقاً لرواية أخته “سكت سليمان وقتها مذهولًا وجرى بعيدًا لهول ما سمع عن مذبحة بحر البقر.
خلال التحاقه بالخدمة العسكرية الإجبارية، انتسب إلى كلية الحقوق/جامعة الزقازيق. وطبقاً لروايات متواترة وواقعاً أصبح ملموساً بعد ذلك، يمكن القول بأن سليمان خاطر كان السبب الرئيسي في تغيير شروط الالتحاق بالأمن المركزي، لأنه كان يدرس القانون بكلية الحقوق، ومن بعد الحادثة أصبح تجنيد المتعلمين في قوات الأمن المركزي ممنوعًا.
هجوم عين نطفيم ٢٦ نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٩٠
في عملية يطلق عليها فدائية بامتياز، عبر الحدود الجندي المصري/ أيمن محمد حسن محمد وهو من قوات حرس الحدود المصرية إلى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة بالقرب من عين نطفيم شمال غرب أم الرشراش (إيلات)، وهاجم عدد من السيارات على الطريق ١٢ السريع وأسفر الهجوم طبقاً لرواية أيمن نفسه عن قتل ٢١ ضابطاً وجندياً إسرائيليأً وجرح ٢٠ أخريين بعد مهاجمة سيارة جيب وحافلتين وعندما أصيب في رأسه عاد إلى داخل الأراضي المصرية ليسلم نفسه.
الرواية الإسرائيلية للحادث أدعت مقتل ٤ ضباط وجنود وإصابة ٢٧ إسرائيلياً مات منهم ١ فيما بعد ليصبح الإجمالي ٥ قتلى، تم محاكمة أيمن حسن عسكرياً وليحكم عليه في ٦ إبريل ١٩٩١ بالسجن ١٢ عاماً بتهمة القتل العمد.
لمحات من حياته
أيمن محمد حسن محمد ولد في ١٨ نوفمبر/تشرين الثاني عام ١٩٦٧ في مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، ينتمي إلى جيل تشكل وعيه مع السنوات الأولى لاتفاقية السلام والصراع ما بين التطبيع الرسمي والرفض الشعبي.
تحدث أيمن أنه عندما خطط للعملية كان يستهدف الانتقام من جندي إسرائيلي، رآه يعبث بعلم مصر ويدنسه، لكن بعد معرفته بمذبحة المسجد الأقصى الأولى، تأجج نار الغضب بداخله فقرر تغيير الخطة إلى الهجوم داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة لحصد أكبر عدد من الإسرائيليين. ذكر أيضاً أنه تأثر كثيراً بما حدث للبطل الشعبي – كما وصفه – سليمان خاطر.
بعد خروجه من السجن عمل سباكًا صحيًا وتزوج وأنجب ثلاثة أبناء، توارى عن الأنظار حتى إبان ثورة يناير حين عاد أيمن وهجومُه إلى محط أنظار الأوساط الشعبية والشبابية، ثم توارى بعد ذلك عن الأنظار مرة أخرى، ويعتبر أيمن حسن الوحيد الذي مازال على قيد الحياة من منفذي عمليات الاشتباك عبر الحدود المصرية الإسرائيلية. كان أيمن حسن يوصف بأنه آخر من عبر الحدود ونفذ هجومًا داخل الأراضي المحتلة حتى جاءت عملية الجندي/ محمد صلاح.
هجوم العوجة ٣ يونيو/حزيران ٢٠٢٣
استطاع الجندي المصري/ محمد صلاح إبراهيم عبر تخطيط مسبق ومتقن أن يغادر معسكره ليلاً ويقطع حوالي ٥ كيلومترات سيرًا على الأقدام مسلحًا ببندقية كلاشينكوف و٦ أمشاط ذخيرة وعدة خناجر، ثم تمكن في فجر يوم السبت الثالث من يونيو/حزيران ٢٠٢٣ من اختراق السياج الحدودي من خلال معبر للطواريء إلى داخل إسرائيل ووصل إلى موقع للحراسة في نطاق لواء باران المكلف بحماية الحدود الجنوبية لإسرائيل، حيث باغت الجندي المصري جندي ومجندة إسرائيليين وأطلق عليهما النار من مسافة قريبة فأرداهما قتيلين ويبدو أنهما فوجئا بالهجوم فلم يتمكنا من إطلاق النار.
هذا الهجوم على الجنديين وقع بين الساعة السادسة والسابعة صباحًا، وعندما لم يستجيبا للنداءات عبر أجهزة اللاسلكي، تم إرسال قوة إلى الموقع في الساعة التاسعة صباحًا ووُجدا مصابين بطلقات نارية.
بدأ جيش الاحتلال عمليات تمشيط للمكان استمرت عدة ساعات دون تحديد موقع صلاح، إلى أن استطاعت جندية من خلال المسح المستمر بالمناظير من تحديد نقطة سوداء يعتقد أنها له – ما سبق يُظهر مدى التخندق الجيد الذي أعده صلاح لنفسه سواء للتخفي أو لجاهزية الاشتباك – .. ذكرت الجندية أنها لم تتجاهل النقطة رغم عدم اليقين بأنها للمهاجم وأبلغت بذلك ثم حددت طائرة بدون طيار موقع المهاجم. توجهت نحو صلاح قوة عسكرية كبيرة، ووقع تبادل كثيف لإطلاق النيران مع محمد صلاح، انتهى بإصابة جندي إسرائيلي بجروح خطيرة، نقل على إثرها إلى المستشفى حيث توفي متأثراً بجراحه، كما أصيب جندي إسرائيلي آخر بجروح طفيفة، واستُشهد محمد صلاح.
لمحات من حياته
الجندي المصري/ محمد صلاح إبراهيم (22 عاماً)، مقيم في عين شمس، القاهرة وقد سلمت إسرائيل جثمانه إلى مصر ودفن في مقابر الأسرة بقرية العمار، مركز طوخ، محافظة القليوبية.
أبرزت صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بمحمد صلاح حبه لفلسطين حيث عبر عن ذلك مراراً عبر منشوراته، وكان يعمل فني ألوميتال ونجارًا للمساعدة في الإنفاق على الأسرة بعد وفاة والده.
إشتباك معبر رفح ٢٧ مايو/ ٢٠٢٤
إطلاق النار على الحدود المصرية الفلسطينية في ٢٧ مايو ٢٠٢٤ بدأ من الجانب الإسرائيلي، حينما كان الجندي/ عبد الله رمضان يناوب في موقع حراسته بالبرج 14، ضمن نطاق عمل السرية نمر، في أول نقطة عند معبر رفح البري بين مصر وقطاع غزة.
تعامل “رمضان” بشكل مباشر مع إطلاق النار من الإسرائيليين تجاهه، وأطلق 19 طلقة من بندقية آلية، تجاه قوات الاحتلال، لتصيب عرباتهم المصفحة.
في نفس الوقت، رد جنود من جيش الاحتلال، بإطلاق النار على”رمضان” من رشاش متعدد عيار نصف بوصة مثبت على أحد المدرعات، حتى أصابت رصاصة منه رأس “رمضان”، ليسقط شهيدًا في الحال.
الجندي الشهيد/ عبد الله رمضان
عبد الله رمضان، 22 عامًا، من الفيوم، حاصل على شهادة دبلوم، ويقضي خدمة عسكرية مدة عامين كجندي في سلاح حرس الحدود. بدأ خدمته العسكرية، في سبتمبر 2022، وكان من المنتظر انتهاء خدمته في سبتمبر 2024.
الجندي الشهيد/ إسلام عبد الرازق
وبرغم التكتم الشديد والغموض في الييانات الرسمية المصرية، برزت معلومات عن جندي مصري ثانٍ استشهد في الاشتباك بالنيران مع العدو الصهيوني وهو الجندي الشهيد/ إسلام إبراهيم عبد الرازق ٢٢ عاماً وحاصل على دبلوم صنائع، وهو من عزبة جاب الله التابعة لمركز سنورس بمحافظة الفيوم.
كان إسلام يخدم في الجيش الثاني الميداني في كتيبة مشاة، ثم تم دفعه ضمن قوات دعم إلى رفح مع بداية الحرب على غزة في أكتوبر 2023.
التأثير الشعبي على الاشتباكات الحدودية المصرية الاسرائيلية
يظهر جلياً من استعراض ملابسات الاشتباكات وبدايتها ودوافعها مدى تأثر هؤلاء الأبطال بالثقافة الشعبية، والرمزيات التاريخية، وحتى التأثير البيني بين أفراد الشعب بما يحملونه من موروث من المبادئ وإطار فكري منبثق من الأخلاق والعقيدة.
أيضا يبرز التأثير الشعبي على هكذا عمليات واشتباكات مع تزايد التفاعلات السياسية داخل مصر وارتفاع صوت وتأثير الشارع والرأي العام كما حدث أبان ثورة ٢٥ يناير، وكذلك مع حالة الصراعات والحروب الإقليمية كما هو واقع الحال بعد طوفان الأقصى في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، وكذلك حالة الرفض الشعبي الجمعي لكل مظاهر التطبيع مع العدو الصهيوني.
ويتمثل التأثير الشعبي المصري على الاشتباكات الحدودية المصرية الإسرائيلية في النقاط التالية:
١- الرأي العام:
يمكن أن تؤثر المشاعر العامة لأفراد الشعب على كل القوات والأفراد والإجراءات المتعلقة بالحدود. فإذا كان هناك غضب أو إحباط واسع النطاق بين الشعب المصري بشأن السياسات أو الإجراءات الإسرائيلية، فإن ذلك يمكن أن يضغط على الحكومة لاتخاذ موقف أكثر حزما، مما قد يؤدي إلى زيادة التوترات والشحن المعنوي على الجنود المرابطين على الحدود المصرية-الإسرائيلية.
2- الثورة والاحتجاجات الشعبية
ساهمت ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ وما صاحبها من إحتجاجات قوية وتفاعلات سياسية واسعة النطاق في إعادة إحياء المشاعر حبيسة الصدور، والحنين لجذور الشخصية المصرية وارتباطها بالأرض والعقيدة، وإيجاد متنفس للتعبير لقطاعات كبيرة من الشعب، وكذلك تشكيل وعي جيل عاصر الثورة في سن مبكرة، وخاصة تلك القضايا المتعلقة بدولة الاحتلال الاسرائيلي وما ترتكبه من إغتصاب للأرض والمقدسات وجرائم ضد الإنسانية. وبالطبع لفتت مثل هذه الاحتجاجات الانتباه بشدة إلى تلك الجرائم والمظالم، مما أدى إلى تصاعد التأثير على الضباط والأفراد والجنود المتواجدين على نقاط التماس الحدودية مع إسرائيل.
3- تأثير الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي
يمكن للتغطية الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي داخل مصر وفي الإقليم أن تعمل على تشكيل التصورات الخاصة للجنود، وأن تؤدي إلى تصاعد حدة مشاعرهم تجاه دولة الاحتلال الاسرائيلي، ولا شك أن تفاعلهم هذا مع الأحداث ينعكس على وضع الحدود مع دولة الكيان.
4- القيادة السياسية
يؤثر الموقف الذي يتخذه القادة السياسيون المصريون، بما في ذلك الرئيس وغيره من المسؤولين الحكوميين، سلبًا أو إيجابًا بشكل كبير على الوضع على طول الحدود. ومن الممكن أن تعمل تصريحاتهم وسياساتهم وإجراءاتهم الدبلوماسية إما على تهدئة التوترات أو تفاقمها، اعتمادًا على نهجهم في التعامل مع العلاقات مع دولة الاحتلال الاسرائيلي وقضايا الأمن الإقليمي.
5- التفاعل العابر للحدود:
قد تتقاطع المشاعر الشعبية المصرية أيضًا مع الاحداث إقليمية على الجانب الآخر من الحدود، مثل الصراعات والحروب التي تشمل الأراضي الفلسطينية أو الدول المجاورة الأخرى. خاصة أن التأثير كبير؛ لملاصقة قطاع غزة للحدود المصرية مع وحدة الدين واللغة وركائز العقيدة مع شعب غزة، ولذلك يمكن للتطورات في هذه المجالات أن تؤثر على التصورات داخل مصر وشعبها وبالتالي على الجنود المرابطين على طول الحدود.
بشكل عام، في حين أن التأثير الشعبي المصري على الاشتباكات على طول الحدود المصرية مع دولة الاحتلال يمكن أن يكون كبيرًا، بل ويمكن القول قياسًا على الأحداث والاشتباكات السابقة، أنه تم ترجمة المشاعر الشعبية إلى أفعال أو نتائج ملموسة على طول الحدود المصرية الإسرائيلية.
الاشتباكات الحدودية والعقيدة العسكرية المصرية
تتفق أغلب المدارس العسكرية في العصر الحديث على مفهوم نظري وأكاديمي شبه موحد للعقيدة العسكرية، إذ أن محاولات التنظير الأكاديمي لتعريف العقيدة العسكرية وجد حديثًا مع التطور في الأكاديميات ومراكز البحث العسكرية.
إذًا نحن نواجه تعريف نظري تم إيجاده ليستخدم مفهومه في الدساتير والقوانين واللوائح والتعليمات المستديمة للجيوش.
فالعقيدة العسكرية هي المذهب العسكري الذي تتخذه الدولة لبناء جيشها وتأسيس كل مجالاتها العسكرية، كما استُعمل مصطلح “العقيدة العسكرية” بشكل عام للدلالة على المستوى الإستراتيجي، وهو الإطار لجميع مستويات العقيدة العسكرية.
وجاء تعريف المدرسة الغربية
العقيدة العسكرية هي مُجمل المبادئ الأساسية التي تتخذها القوات العسكرية لإنجاز مهامها، وهي قواعد مُلزمة وإن ظلت المواقف القتالية المختلفة الحكم الأساسي لاتباع أي من قواعد العقيدة العسكرية.
والمدرسة الشرقية جاء تعريفها أكثر جمودًا وتبعية لهيمنة الدولة كالتالي
العقيدة العسكرية هي النظام الرسمي المعتمد من الدولة لمجمل الآراء العلمية حول طبيعة الحرب الحديثة واستخدام القوات المسلحة خلالها… وهي تتكون من شقّين أساسيين وهما؛ شق اجتماعي سياسي وآخر عسكري تقني
العقيدة العسكرية المصرية والضمير الشعبي الجمعي
على المستوى الوطني المصري كان دائمًا للعسكرية المصرية تفردها نظرًا لقدم الحضارات وتعاقبها على أرض مصر، وما مر عليها أيضًا من صراعات وفترات احتلال وحروب تحرر وما تلاها من الحروب التقليدية ضد العدو الصهيوني في العصر الحديث.
ونستنتج من ذلك أيضاً ما مر على العقيدة العسكرية المصرية عبر التاريخ من تحولات ومحاولات تأطير وتقييد.
ولكن هل العقيدة العسكرية للرجل المقاتل المصري هي حقاً ذلك التعريف المصمت وتلك الكلمات التنظيرية ذات الصياغات الأكاديمية العالمية؟
يجيبنا على ذلك رئيس أركان الجيش المصري الفريق سعد الدين الشاذلي في كتابه الذي أصدره قبل حرب أكتوبر ١٩٧٣ بثلاثة شهور والذي تحدث فيه بوضوح تأسيسي للعقيدة العسكرية المصرية أنها يجب أن تكون مستمدة من عقيدتنا الدينية ومن فطرتنا وإطارنا الأخلاقي وثوابتنا الفكرية في مواجهة العدو الصهيوني.
وبطرح آخر أكثر تحديدًا ووضوحًا هل المقاتل المصري الذي خاض الاشتباكات الحدودية التي سبق سردها، أو خلال القتال عمومًا في ساعات الترقب في الميدان وفي دقائق الإشتباك وحين يتقدم المقاتل للإستشهاد غير هياب، سيكون ما يعتلج في صدره وما يشتعل في ضميره هي تلك التعريفات الرسميه للعقيدة العسكرية أم ما يعتقده حقاً من مباديء وقيم فطرية مستمدة من عقيدته الدينية وإطار أخلاق تراكمي مما نشأ عليه في مجتمعه وعلى أرض وطنه؟
الإجابة نجدها في الجنود أنفسهم الذين قاموا بهذه الإشتبكات الحدودية، الذين هم بدءًا من سليمان خاطر جميعهم جنود إلزاميون وليسوا عسكريين محترفين ولم يدرسوا في الكليات والمعاهد العسكرية، وبرغم ذلك قاموا بهذه الاشتباكات بشجاعة فائقة، وذلك لأن القيم العقائدية والأطر الفكرية والطبائع الفطرية المرتبطة بالشعب والأرض هي أساس ردة فعل الموقف الإنساني، وما المقاتل المصري إلا رجل يأتي للجيش من ربوع الوطن، هو وأمثاله ملح الارض وطينها يأتون من القرى والنجوع والكفور ، تلك الأماكن الخلفية المنسية ثم يعودون إليها.