مقدمة
ما هو حزب العمال البريطاني
حزب العمال هو حزب سياسي في المملكة المتحدة يوصف بأنه تحالف من الديمقراطيين الاجتماعيين والاشتراكيين الديمقراطيين والنقابيين. يقع حزب العمال على يسار الوسط من الطيف السياسي. في جميع الانتخابات العامة منذ عام 1922 كان حزب العمال إما الحزب الحاكم أو المعارضة الرسمية. قدم الحزب ستة رؤساء وزراء وتولى وزارة العمل ثلاث عشرة مرة.
منذ الانتخابات العامة لعام 2010 والحزب ثاني أكبر حزب سياسي في المملكة المتحدة من حيث عدد الأصوات بعد حزب المحافظين، ويليه حزب الديمقراطيين الليبراليين. يعقد الحزب مؤتمره السنوي تقليديا خلال موسم المؤتمرات الحزبية في المملكة المتحدة.
تاريخ الحزب وتأسيسه
تأسس الحزب في عام 1900 -وجاءت نشأته من الحركة النقابية والأحزاب الاشتراكية في القرن 19 التي تفوقت على الحزب الليبرالي- ليصبح المعارضة الرئيسية لحزب المحافظين في أوائل عشرينيات القرن العشرين. تمكن الحزب من تشكيل حكومتَي أقلية تحت رئاسة رامزي ماكدونالد في عشرينيات وأوائل ثلاثينيات القرن العشرين. خدم حزب العمال في تحالف زمن الحرب بين أعوام 1940-1945، وبعد ذلك تشكلت حكومة كليمنت أتلي العمالية بين أعوام 1945 إلى عام 1951. ليعود حزب العمال إلى الحكم مرة أخرى تحت قيادة كل من هارولد ويلسون ما بين 1964 و1970 ثم جيمس كالاهان ما بين 1974 و1979. وفي تسعينيات القرن العشرين، أخذ توني بلير حزب العمال إلى الصدارة مرة أخرى كجزء من مشروعه العمالي “الجديد” كما أسماه ليحتفظ بذلك برئاسة الوزراء لأطول مدة في تاريخ الحزب وذلك بين أعوام 1997 و2007، تلاه من حزبه جوردون براون حتى عام 2010.
منذ عام 2010 وحتى الآن يشكل حزب العمال المعارضة الرسمية في برلمان المملكة المتحدة. يتزعم الحزب والمعارضة كير ستارمر. يُعد حزب العمال أكبر حزب في مجلس الشيوخ (البرلمان الويلزي)، كونه الحزب الوحيد في الحكومة الويلزية الحالية. كما أن الحزب هو ثالث أكبر حزب في البرلمان الاسكتلندي، خلف الحزب الوطني الاسكتلندي والمحافظين الاسكتلنديين. بالإضافة إلى ما سبق، فإن حزب العمال عضو في حزب الاشتراكيين الأوروبيين والتحالف التقدمي، ويحمل صفة مراقب في الاشتراكية الدولية. يضم الحزب فروعا شبه مستقلة في لندن واسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية. ومع ذلك ، فإنه يدعم الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب العمل (SDLP) في أيرلندا الشمالية. لدى حزب العمال 366,604 عضوا مسجلا حتى مارس 2024.
في 20 أبريل من عام 2020، انتخَب حزب العمال -وسط أجواء الهزيمة الانتخابية والتناحر والتشتت التي عمت الحزب- السير كير ستارمر زعيما له، وكان على الزعيم الجديد أن يوحِّد الحزب ويبرئه من تهمة معاداة السامية، بالأفعال لا بالأقوال، وأن يُعِدَّه للفوز في الانتخابات المزمع إجراؤها في يناير 2025 كموعد أقصى. وقد بدأ ستارمر عهده بالتصريح بأن “معاداة السامية وصمة عار على حزب العمال” وأنه عازم على اجتثاثها كليا.
حزب العمال وموقفه من الحرب على غزة
ألقت الحرب الشرسة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على غزة بظلالها على نتائج الانتخابات المحلية البريطانية وموقف حزب العمال فيها؛ حيث أدى موقف زعيم حزب العمال البريطاني، السير كير ستارمر، بخصوص الحرب على غزة إلى موجة واسعة من الاستياء داخل حزب العمال، وأدى إلى استقالة العشرات من أعضاء الحزب المشاركين في الحكومات المحلية، وإعلان العديد من أعضاء حكومة الظل التي يقودها مواقف مخالفة لموقف زعيمهم.
وأثر في صياغة موقفه أيضاً تعهده بعد أن أصبح زعيماً لحزب العمال في عام 2020 بالقضاء على معاداة السامية في الحزب بعد أن تعرض سلفه اليساري جيريمي كوربين -الذي انتخب لرئاسة الحزب في سبتمبر/أيلول من العام 2015- لانتقادات متكررة بسبب رد فعله على مزاعم تتعلق بمعاداة السامية بسبب توجهاته المناصرة للقضية الفلسطينية والدفاع عن الحق الفلسطيني، فكان هدفًا لموجة هجوم شديدة من الصحف الإسرائيلية والتي وصفته بأنه “معاد للسامية”، وانتقدت عدم اعتباره حركة حماس حركة “إرهابية”، وكذلك تعهده بفرض حظر على بيع السلاح لإسرائيل إن انتخب رئيسا للوزراء.
كان كوربيين أول زعيم سياسي في بريطانيا يرفع العلم الفلسطيني في المؤتمر السنوي العام لحزبه، مما شكل أعلى تمثيل للقضية الفلسطينية في تاريخ المملكة المتحدة، كما أنه يعتبر ضيف معتاد للعديد من المساجد في العاصمة لندن للمشاركة في الأنشطة التي تنظمها والاحتفال مع المسلمين بمناسباتهم الدينية.
رافقت تهمة معاداة السامية حزب العمال البريطاني منذ تأسيسه، رغم أن العديد من قياداته كانوا من اليهود مثل زعيم الحزب الأسبق، أد مليباند، وأخيه وزير الخارجية الأسبق، ديفيد مليباند، ووزير الخارجية الأسبق، جاك سترو، والوزير والنائب السابق جيرالد كوفمان ووزير التجارة الأسبق بيتر ماندلسون. وبسبب هذه التهمة، تطور حذر شديد لدى قيادات الحزب بمرور الزمن عند التعامل مع هذه المسألة، وهذا الحذر جعله يراقب بعناية سياساته وإجراءاته وتصريحات قادته وأعضائه المتعلقة بإسرائيل واليهود عموما، كي لا تُفسر بأنها معادية للسامية.
لم تنتهي أزمات كوربيين حتى بعد خسارته زعامة حزب العمال بسبب موقفه المناصر للقضية الفلسطينية، بل امتدت إلى قرار حزب العمال بمنعه من الترشح للانتخابات البرلمانية التي ستعقد خلال أيام قليلة، وبدا واضحًا أن الحزب لم يعد يريده عضواً ولا مرشحاً بعد تحقيق أجرته لجنة داخلية مختصة بحقوق الإنسان عام 2020، وتوصلت فيه إلى أن حزب العمال تحت زعامته حاد عن قواعد المساواة وانجرف وراء الأفكار المعادية للسامية -على حد وصف اللجنة-.
رفض كوربيين نتائج تقرير اللجنة حينها وقال إن تهمة معاداة السامية استخدمت لأغراض سياسية، ولكن الزعيم الجديد للعمال كير ستارمر قرر التخلي عنه في سياق حربه المعلنة على “معاداة السامية” بين صفوف الحزب، وهو أكبر إنجاز داخلي يفاخر به ستارمر، ويستدعيه كلما أراد إقناع البريطانيين بقدرته على تغيير البلاد.
وعندما وقع العدوان الإسرائيلي على غزة، كان أمامه خياران: إما أن يدعو إلى وقف إطلاق النار، ويدين القصف الإسرائيلي للسكان المدنيين، وبذلك يشذ عن مواقف حكومات أوروبا وأميركا، التي ساندت إسرائيل، وفي الوقت نفسه يخاطر بتجدد اتهامات “معاداة السامية” التي مزقت الحزب سابقا وأضرت بسمعته وقلصت شعبيته، والتي استطاع التخلص منها بصعوبة، أو أن يسلك طريق الانسجام مع مواقف باقي الدول الأوروبية، ويتجنب الاتهام بمعاداة السامية، الذي كان سيتهم به على الأرجح، خصوصا من قبل خصومه السياسيين من المحافظين والمتشددين والمساندين لإسرائيل. فاختار الطريق الأسهل والأسلم، أو هكذا توهم، فموقفه هذا أثار استياء شريحة واسعة من حزب العمال ومن الشعب البريطاني عموما، خصوصا بين المؤيدين لقضية الشعب الفلسطيني، وبين المسلمين الذين يقارب عددهم 4 ملايين، ويصوت معظمهم لحزب العمال، وكذلك بين اليساريين والمتعاطفين مع مأساة السكان المدنيين في غزة، الذين يتساقطون بالآلاف، بين قتلى وجرحى.
كان حزب العمال يتقدم بفارق واسع في استطلاعات الرأي على حزب المحافظين، وقد بدا الفوز في الانتخابات المقبلة وكأنه أمر مفروغ منه، لكن موقف الحزب الأخير من الحرب في غزة قد يفقده بعض التأييد الذي يحتاجه لتحقيق فوز مؤكد في الانتخابات المقبلة.
لن يفرط كير ستارمر بفرصة الفوز في الانتخابات المقبلة، خصوصا مع تدني شعبية حزب المحافظين، لكن التوفيق بين عدم المطالبة بوقف إطلاق النار في غزة، وكسب الناخبين المسلمين والمتعاطفين البريطانيين مع الفلسطينيين، لن يكون سهلا.
وعلى الرغم من أن ستارمر كرر في خطابه في 31 أكتوبر الماضي -2023- مطالبته بهدنات إنسانية في الهجوم الإسرائيلي للسماح بالإغاثة الإنسانية، وتجنيب الفلسطينيين المعاناة، وتقديم ضمانات واضحة بعودة النازحين إلى منازلهم في غزة سريعا، إلا أن ذلك ليس كافيا على ما يبدو لإرضاء كثيرين بين أعضاء الحزب ومؤيديه.
من المتوقع أن يتقدم الولاء للحزب بين مؤيديه على أي خلاف حول السياسة الخارجية، وإن تضررت شعبية الحزب بسبب موقفه من الحرب في غزة، فإن الضرر لن يكون كبيرا على الأرجح، بحيث يؤثر على فرص فوزه في الانتخابات المقبلة.
على الرغم من تحقيق حزب العمال البريطاني فوزًا مريحًا في الانتخابات المحلية، إلا أن كان لقضية الحرب على غزة تأثيرًا كبيرًا على الحزب وفرص فوزه في الانتخابات العامة القادمة. تسبب غضب الناخبين المسلمين من موقف الحزب حيال حرب غزة في فقدان الحزب السيطرة على 39 مقعداً على الأقل لصالح الأحزاب المنافسة والمستقلين بالرغم من فوزه ب 120 مقعداً.
وفي الانتخابات المحلية، فقد حزب العمال السيطرة على مجلس بلدة أولدهام التي تقع بشمال غرب إنجلترا ويقطنها عدد كبير من المسلمين، بعد أن ترك اثنان من أعضاء مجلس العمال السابقين الحزب ليخوضوا الانتخابات كمستقلين بسبب الموقف من الصراع في غزة.
يسيطر على الحزب مخاوف من انفضاض الناخبين المسلمين عنه بسبب غزة في اتجاه قد يقلص حظوظ الحزب خلال الانتخابات العامة. ويجد زعيم حزب العمال كير ستارمر صعوبة في حمل حزبه على الالتفاف حول موقفه من الصراع في غزة رغم رضوخه لضغوطٍ هذا العام للدعوة إلى وقف دائم لإطلاق النار، بعد أن حثه منتقدون على انتهاج موقف أشد صرامة تجاه إسرائيل. وتقلص عدد الناخبين المؤيدين لحزب العمال في أماكن بها عدد كبير من المسلمين في جنوب وشمال إنجلترا، لكن أحد المشرعين قال إنه يرى ذلك تصويتًا احتجاجيًا لن يتكرر بالضرورة في الانتخابات العامة. وتتحول إشارات الخوف والقلق إلى حقائق حين أقر ستارمر نفسه بأن غزة كان لها تأثير على دعم حزب العمال في بعض المناطق، وذلك في حديثه بعد فوز حزبه بمقعد في البرلمان في شمال إنجلترا وسيطرته على عدد من المجالس في أنحاءَ أخرى، في ضربة قوية لحزب المحافظين الحاكم. وقال ستارمر “هناك بعض الأماكن كان لهذا تأثير كبير جدًا وأنا أتفهم ذلك وأحترمه”.
ومما يؤكد التأثير السلبي للحرب على غزة على نتائج حزب العمال البريطاني، فإنه بناء على النتائج الأولية، انخفض التأييد لحزب العمال في المناطق التي يمثل المسلمون أكثر من 10% من سكانها بمقدار 8 نقاط تقريبًا منذ العام الماضي.
لم تقف حدود تأثير الحرب على غزة على نتائج الحزب في الانتخابات المحلية فقط، ولا حتى على استطلاعات الرأي فيما يخص الانتخابات العامة فحسب، بل امتد التأثير إلى الانقسامات داخل الحزب علنًا في أواخر العام الماضي حين استقال بعض أعضاء الفريق السياسي لستارمر من أجل التصويت لصالح وقف إطلاق النار في غزة. ومنذ ذلك الحين، اضطر ستارمر إلى سحب دعم الحزب لمرشح انتخابي في شمال إنجلترا في وقت سابق من هذا العام بعد أن نشر مقاطع مسجلة يتبنى فيها المرشح نظريات المؤامرة حول إسرائيل، مما فتح الطريق أمام اليساري المنشق جورج جالاوي للفوز بمقعد في البرلمان على أساس برنامج مؤيد للفلسطينيين.
نشرت صحيفة الجارديان البريطانية تقريرًا عن تأثير الحرب على غزة على حزب العمال البريطاني حيث قال بات مكفادين -منسق الانتخابات الوطنية للحزب- أنه سيعمل على استعادة دعم الناس، حيث أظهر تحليل لنتائج استطلاعات الرأي ونتائج الانتخابات المحلية أنه على الرغم من المكاسب الضخمة في مقاعد المجلس، والحصول على عمدة ويست ميدلاندز، وفوز صادق خان، عمدة لندن المسلم، بولاية ثالثة، كان هناك انخفاض بنسبة 18٪ تقريبا في أصوات حزب العمال في المناطق التي يمتلك فيها المسلمون خمس الأصوات تقريبًًا في تصويتٍ احتجاجي على دعم حزب العمال لإسرائيل بشأن غزة والوقت الذي استغرقه الحزب للدعوة إلى وقف إطلاق النار. قال مكفادين لبي بي سي في برنامج “يوم الأحد مع لورا كوينسبرغ”: إن الوضع في الشرق الأوسط كان “أولوية عالية في السياسة الخارجية” لحزب العمال. مضيفا: “الحياة الأفضل التي يريدها الناس للشعب الفلسطيني هي شيء يشاركهم فيه قيادة حزب العمال”.
من الإشارات التي يجب التوقف عندها لإيضاح التأثير الكبير للحرب على غزة على نتائج حزب العمال البريطاني هي أن مرشح حزب العمال لمنصب عمدة ويست ميدلاندز فاز بشق الأنفس بسبب حصول المرشح المستقل أحمد يعقوب بما يقرب من سبعين ألف صوت بعد حملة ركزت على غزة انتزع بها حصة مهمة من أصوات حزب العمال، ولو حصل يعقوب على ما يزيد قليلاً عن 1500 صوت إضافي، لكان خسر باركر.
كما نشر موقع The Nation تقريرًا مشابهًا لتقرير الجارديان البريطانية عن التأثير الكبير للحرب على غزة على حزب العمال البريطاني جاء فيه:
“على الرغم من الفوز الذي حققه حزب العمال البريطاني في الانتخابات المحلية، إلا أن الانتخابات أوضحت الانزعاج العميق بشأن دعم حزب العمال للمذبحة التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وخاصة بين الناخبين الأصغر سناً وفي المناطق التي تضم أعداداً كبيرة من السكان المسلمين. وفي حين تكبد حزب المحافظين خسارة صافية قدرها 473 مقعدًا في المجالس المحلية، لم يتمكن حزب العمال من حصد سوى مكسب صافي قدره 185 مقعدًا مع صعود حزب الخضر والمستقلين في بعض معاقله”.
الخلاصة
تَخطى العدوان الإسرائيلي على غزة حدود الجغرافيا والشرق الأوسط ليمهد لتغييرات ستكون جوهرية في رسم سياسات واستراتيجيات العالم بأسره، نراها واضحة مع نتائج الانتخابات المحلية البريطانية التي على الرغم من فوز حزب العمال البريطاني بها، إلا أن موقف الحزب من الحرب على غزة قد اقتطع نصيبًا كبيرًا من مقاعده لصالح حزب المحافظين والمستقلين، حيث أنه كان من المفترض أن تكون من أكثر الانتخابات سهولة على حزب العمال نظرًا لتدني شعبية حزب المحافظين، ولكن جاءت الحرب على غزة لتخفض نسبة فوز حزب العمال بها.
على العالم أن يدرك أن الحرب على غزة بدأت في قلب الموازين التي كانت مستقرة لعقود، فتخفض من شأن من شارك ومن أيد إسرائيل في العدوان، في الوقت الذي ستُعلي فيه من مكانة من رفع شأن الحق الفلسطيني العادل وناصره ودافع عنه.