ليس رثاءً ولا نعيًا؛ لكنها الحقيقة المجردة أكتبها عن الدكتور محمد مرسي الأكاديمي والإنسان. أكتب الحقيقة ولا أخاف لومة لائم، إنصافًا لإنسان شوه الجهل صورته، وسجن الظالمون أسرته، وتخلّى عنه إعلام الغرب الذي عاش ودرس وعلّم فيه، وتخاذل عن دعمه كثيرون من الوسط الأكاديمي الذي كان أول من أنصفه في فترة رئاسته.
هناك علماء رأوا أن التعفف عن مناصرة الحق -في لحظة فاصلة- دلالة على شغفهم بالعلوم والأبحاث؛ وأي علم هذا الذي لا يحارب الجهل ولا ينصف مظلومًا ولا ينصر الحقيقة ولا يرقى بأمة؟!
وإن لم تضف الحقيقة التي أكتبها أي شيء لقيمة الرجل الذي كان مسجونًا وراء القضبان بعد الثالث من يوليو/تموز 2013، بينما كنت أنا أشغل مكتب فريقه الاستشاري في قصر الرئاسة؛ فإن هذه الحقيقة درس هام يعكس المكانة التي يشغلها العلم والتعليم في المشهد الإنساني والفكري العربي.
سلكنا نفس الطرق ولكن لم يجمعنا أبدا أي حوار، سكن كلانا مدينة لوس أنجلس، درس د. مرسي بجامعة ساوثرن كاليفورنيا العريقة والتي أعمل فيها حاليًا، وشارك في مشروعات وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) التي أنتسبُ إليها منذ عام 2003، وأخيرًا عمل كلانا نفس المدة تقريبًا بقصر الاتحادية الرئاسي بمصر، فكان رئيسًا للجمهورية ثم كنت أنا مستشارا علميا في القصر ذاته ولكن بعد عزل د. مرسي.
وبالنظر إلى مسارنا المشترك؛ تجعلني هذه المراحل قادرًا على إعطاء نظرة واقعية لهذه الشخصية الفريدة التي تتفق معها أو تختلف، هي شخصية مستنيرة قادرة على إحداث طفرة في مصير مصر، وسأشرح ذلك من خلال تعليمه ومفهومه للتسامح.
العلم والتعليم بحياة مرسي
لم يكن د. محمد مرسي فقط أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، ولكنه -وهو الأهم- كان الرئيس الأفضل تعليمًا وعلمًا من كل من سبقوه، وكان لذلك حضور دائم في حياته المهنية؛ فتراه دقيقًا في وصفه للأرقام، واثقًا في الخطوات، واضحًا في كلامه، حاضر البديهة في حواراته، متواضعًا في سلوكه، معترفًا بأخطائه، ومستشيرًا أصحاب الخبرات في إصلاحها أكثر من كل من سبقوه.
في آخر كلماته داخل القفص الزجاجي العازل في المحكمة؛ كان يواجه القاضي بالحجة العلمية قائلًا: “علميًا إن كنت لا أراك فأنت لا تراني”. ومنذ وصوله قصر الاتحادية؛ كانت أولى قرارته هي رفع أجور أعضاء هيئة التدريس، ورفع ميزانية الجامعات، وشكّل لجنة للنهوض بالبحث العلمي، وبدأ منظومة للاستعانة بالعلماء والأكاديميين بالخارج.
كان د. محمد مرسي يقول دائمًا عن نفسه إنه ليس إنسانًا كاملًا، لكنه -خلافًا عمن سبقوه ومن تبعوه في هذا المنصب- كان يمتلك القدرة على التطور والتحسن، بفضل تعليمه القوي وحياته في وسط أكاديمي متميز ومتعدد الأعراق، طيلة سنوات وجوده في الولايات المتحدة. فدرس الدكتور مرسي بجامعة ساوثرن كاليفورنيا العريقة في كلية هندستها ذائعة الصيت، وتخصص في علم الفلزات الذي كانت له تطبيقات هامة في مجال الفضاء.
وكيف لا يُشهد للدكتور مرسي بالتفوق وقد كان نيل أرمسترونغ -أول رائد فضاء- أحد طلاب نفس الكلية وهو يخطو أولى خطواته على القمر، وتخرج منها كذلك شارلز بودن أول رئيس من أصول أفريقية لوكالة ناسا، وتخرج من الجامعة بشكل عام قادة ومفكرون منهم مصطفى العقاد مخرج فيلم “الرسالة”، وأيضًا رئيس وزراء اليابان وغيرهم، وتُعرف هذه الجامعة بانتقائها للعقول المبدعة والشخصيات القيادية غير التقليدية، وتتشدد في قيم التسامح الديني والعرقي.
ولذلك كان من الطبيعي جدًا أن يجد خريجوها فرص عمل متميزة في الوسط الأكاديمي، كما صار مع د. مرسي بتعيينه أستاذً مساعدًا بجامعة ولاية كاليفورنيا في مدينة نورثريدج شمال غربي لوس أنجلس، بعد حصوله على درجة الدكتوراه بها عام 1982.