مقدمة
إن العمران القائم على بناء كتل خرسانية شاهقة الارتفاع، تحدها أسوار تحميها من عامة الشعب وتحتوي على كل ما تحتاجه الطبقة المخملية التي تسكن هذه المجمعات الخرسانية لهو عمران زائف، فالعمران مرتبط بالإنسان، فوظيفة المجتمعات هي بناء الإنسان وحمايته وليست وظيفة الإنسان العيش في أبراج عاجية في معزل عن المجتمع.
يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة:
“اعلم أن حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر، بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال”.
وتصف الدكتورة هبة رؤوف عزت العمران حين تقول: “العمران هو تصور لخرائط الحياة اليومية في تراكمها التاريخي، وما ينتج عن ذلك من تحولات إنسانية وبشرية، وهو ليس مجرد تصورات عن العمارة منفكة عن الأرض والسكن وترتيب المساحات والحدود بين العام والخاص، والاجتماع والسياسة والاقتصاد، وهو أجسادنا في صيغ تفاعلها مع الحيز المكاني، وهو تصور للعالم وموقع فيه ومساحات الفراغ وفضاءات التواصل. العمران احترام لتواريخ الأماكن والبشر حين ترتحل وحين تستقر، وهو أزمنة متجاورة تمنح الحياة طبقات من الطّقوس والشعائر والجماليات يصعب فصلها وفصمها، إنّه بنيان المعارف ومساحات الزخارف.والعمران مدن تمنح الأمن الإنساني والحياة الكريمة، وليس أسواقا تتيح الاستهلاك فقط. العمران رسم البشرية لأحلامها، وبحثها عن الصيغ المتنوعة لتجلياتها في الزمان والمكان، وتفاعلها مع الأكوان والألوان والأصوات. إنّه منطق للسلطة يقوم على الرعاية وتحقيق الكفاية، وهو بصمة الحضارة على الروح قبل أن تكون آثارها في المساكن، وهو دوائر عدل وساحات براح وجسد اجتماعيّ يتمدّد ويتجدّد. إنّه عبر وبصائر ونظر وفضائل”.
يظهر أن السلطة الحالية في مصر تتبع سياسة الكانتونات المنعزلة في تخطيطها وتنفيذها للحيز العمراني المصري، ولا تعتمد على نية التطوير، وإنما على فكرة العزل بين الطبقات، بعدما أدت ممارسات الحكومة إلى انهيار الطبقة الوسطى المصرية التي تحملت تاريخيًا عبء النهوض بهذه الأمة والحفاظ على مقدراتها على مر أجيال متعاقبة.
إن الصراع الدائر بين السلطة في مصر وبين أهالي جزيرة الوراق ليس على فكرة التطوير، فالجميع يرغب ويتمنى تطوير حياته ويحلم بحياة كريمة، وإنما يمكن القول بأن الصراع هنا هو صراع طبقي ووطني بامتياز؛ فالسلطة الحالية لا تريد تطوير حياة أهالي جزيرة الوراق، وإنما ترغب في طردهم ليس فقط من أرضهم، ولكن طردهم من ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم واستبدالهم بالطبقات المخملية التي صعدت على واجهة الحياة في مصر مع صعود السلطة الحالية في البلاد، ويستدل مراقبون بتصريح قائد السلطة “مفيش حاجة ببلاش، كله هيدفع” بأنه مما يدلل على حرب السلطة الحالية على الطبقة الوسطى والفقراء.
إن الأزمة الحقيقية في الصراع بين السلطة الحالية وأهالي جزيرة الوراق ومطالبهم المشروعة، هي أن الأهالي يدركون إدراك اليقين أن السلطة لاتريد لهم تطويرًا ولكن لغيرهم، وأن السلطة تريد انتزاعهم من أرضهم لصالح الطبقات التي صنعتها السلطة، الأمر الذي رآه أهالي الجزيرة ظلمًا وعدوانًا قرروا مقاومته والصمود في وجهه.
“همضي بدمي ، مش بالحبر ….. عمري ما افرط منها بشبر”
جملة كتبها أهالى الوراق على لوحة تلخص حكاية رفضهم التفريط في الأرض لصالح السلطة التي تنوى انتزاع أراضي الأهالي وهدم بيوتهم لصالح مستثمرين إماراتيين من أجل بناء كتل خرسانية تخدم طبقة المنتفعين الجدد وأغنياء الإقليم.
قصة تتكرر في مواطن كثيرة في مصر، لكن هذه المرة يذكرنا أهالى الوراق بالجنود المصريين على الجبهة عندما كان الجيش يحارب لتحرير الأرض من العدو، وليس للسطو على حقوق شعبه، ذلك في كلمة لأحد أهالى جزيرة الوراق يخاطب بها القيادات الأمنية قائلا لهم:
“اقتلوني زي ما قتلتوا الشهيد سيد، ولو مت يبقى مت شهيد”
اللواء هاني شعراوي، حكمدار محافظة الجيزة، اتهم الأهالي بارتكاب جرائم جنائية والبناء على أرض زراعية ليُخرج القضية من كونها قضية حقوق إلى قضية جنائية يحق للسلطة فيها اعتقال الأهالي، ولكن روايته تهاوت أمام دفوع وتوضيحات أهالى الجزيرة، فما لبث أن غادر المكان بعدما حاصره الأهالي بالأسئلة.
ما هي جزيرة الوراق
جزيرة الوراق هي جزيرة مصرية في نهر النيل ومدينة جديدة تتبع هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة في نطاق محافظة الجيزة، تبلغ مساحتها 1470 فدان، وهي واحدة من 255 جزيرة في مصر، وتعتبر أكبرهم مساحة، يحدها شمالاً وشرقاً محافظة القليوبية، وجنوباً محافظة القاهرة، وغرباً محافظة الجيزة. يقطن الجزيرة عدد من السكان في تجمعات عمرانية عشوائية، وتستخدم غالبية أراضيها في أنشطة زراعية. دارت نزاعات قانونية بين قاطني الجزيرة والحكومة المصرية منذ عام 2001 حول ملكية بعض قطاعات الجزيرة، انتهت إلى إصدار رئيس مجلس الوزراء قرارا في عام 2018 بإنشاء مجتمع عمراني جديد على أرض الجزيرة يتبع هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، على أن تنتقل ملكية الأراضي الحكومية في الجزيرة إلى الهيئة ويتم تعويض الأهالي من ملاك الأراضي والمنازل إما ماديا أو عينياً بقطع أراضي أو وحدات سكنية بديلة.
قصة الصراع بين السلطة وأهالي جزيرة الوراق
تتلخص تفاصيل المشروع الجديد كما يلي وفق ما ذكرته مواقع رسمية مصرية:
تصل التكلفة التنفيذية للمشروع 17.5 مليار جنيه، وقدرت دراسة الجدوى الإيرادات الكلية بما يساوي 122.54 مليار جنيه، فيما أوضحت أن الإيرادات السنوية تبلغ 20.422 مليار جنيه لمدة 25 سنة.
ومن المخطط أن يضم مشروع مدينة حورس 8 مناطق استثمارية، ومنطقة تجارية ومنطقة إسكان متميز، كما سيتم إنشاء حديقة مركزية ومنطقة خضراء ومارينا 1 و2، وواجهة نهرية سياحية، كما سيشمل المشروع منطقة ثقافية وكورنيش سياحي وإسكان استثماري وفنادق 7 نجوم ومهبط طائرات هليكوبتر.
أسئلة مشروعة لأهالي جزيرة الوراق
- طرح أهالي جزيرة الوراق العديد من الأسئلة المشروعة والتي لم تستطع السلطة الحالية أن تجب عليها؛ ويمكننا تلخيص هذه الأسئلة في التالي:
- لماذا يقوم مخطط التطوير على إبعادنا وتهجيرنا من الجزيرة؟
- لماذا لا يكون التطوير بنا ومن أجلنا؟
- لماذا ادعت الحكومة ملكيتها للأرض واتهمتنا أننا معتدين عليها بوضع اليد بالرغم من ملكيتنا لأراضينا ومنازلنا بعقود ملكية مسجلة في الشهر العقاري؟
- لماذا يتم تشويهنا في وسائل الإعلام؟
قصة الصراع وبداياته
المحاولة الحكومية الأولى للسيطرة على أراضي جزيرة الوراق 2001
بالرغم من أن حياة الناس ومعيشتهم وحقهم فى السكن والحياة الكريمة هي المبادئ الأولية العامة التي تستند إليها الدساتير والقوانين، وتهدف علوم الاقتصاد والسياسة إلى تحقيقها، وتُبنى عليها كافة العقود الاجتماعية، فإن أهالى جزيرة الوراق يمتلكون بالفعل عقود ملكية وعقود حق انتفاع مسجلة بالشهر العقارى لأكثر من 97% من مساحة الجزيرة البالغة حوالي 1800 فدان، منها حوالى 1200 فدان أراض زراعية، بالإضافة إلى ذلك يوجد حكم من محكمة القضاء الإدارى سنة 2002 بملكية الأهالى وأحقيتهم فى الجزيرة، كان قد حصل عليه الأهالى بعد قرار رئيس الوزراء الأسبق عاطف عبيد سنة 2000 بتحويل الجزيرة إلى المنفعة العامة.
جاءت خطة تطوير جزيرتى الذهب والوراق ضمن مخطط “القاهرة 2050” الذي أعلنته الحكومة عام 2009 والذى يستهدف فى صيغته الأولى تحويل الجزيرتين إلى حدائق ومنتزهات ترفيهية.
تعاقدت الحكومة مع شركة “كيوب للاستشارات الهندسية” آنذاك التي قامت بنشر تصور عن تطوير القاهرة فى ظل رؤية 2050 على موقعها عام 2010، يتضمن تحويل جزيرة الوراق إلى مركز سياحي يضم حدائق ومنتجعات سياحية ومبان سكنية فارهة وتغيير اسمها لتصبح “جزيرة حورس”. ثم تعاقدت الحكومة المصرية مع شريك آخر في 31 مارس 2013 وهو شركة “آر اس بى” الإماراتية السنغافورية، التي نشرت تصور مشابه لتطوير الجزيرة وتحويلها إلى منتجع سياحى. ثم فى 7 يونيو 2017 أشار السيسي خلال مؤتمر “نتائج إزالة التعديات على أراض الدولة” إلى جزيرة بالنيل تبلغ مساحتها أكثر من 1250 فدان بها تعديات سكنية، وأصدر أمرا على الهواء بإعطاء الأولوية للتعامل مع تلك الجزر، ليتبع ذلك بشهر واحد هجوم قوات الأمن على الجزيرة وبداية مأساة الأهالي.
ففى عام 2018 صدر قرار جديد لرئيس مجلس الوزراء بإنشاء مجتمع عمرانى جديد على أراض جزيرة الوراق بمسطح 1561 فدان، واجهه الأهالى بالطعن على القرار فى القضاء الإدارى فى قضية مستمرة حتى الآن. ثم تلا ذلك حصار الأمن للجزيرة والسيطرة على المعديات للتحكم فى مداخل الجزيرة. كما تم القبض على ثلاثة من أهالى الجزيرة وضمهم للقضية رقم 844 لسنة 2019 أمن دولة طوارئ واتهامهم بالانضمام لجماعة إرهابية إلى غيرها من التهم الباطلة التى يقبعون بموجبها في الحبس حتى الآن. وفي 12 يونيو 2019 قام الأمن مرة أخرى بالهجوم على الجزيرة ومحاولة هدم منزل المواطن “عواد أبو خلول” واعتقاله هو وأفراد من أسرته، ليتم اخلاء سبيلهم بعد ذلك.
أما بالنسبة للتعويضات المادية المعروضة من الحكومة، فهى تدار بضبابية وعشوائية شديدة تبدو مقصودة، كما حدث مع كافة المناطق الأخرى التي تم اخلائها سابقا في السنوات الأخيرة. وبالنظر إلى ذلك التاريخ وإلى تعامل الحكومة فى ملف الوراق نفسه، فـــلأهـــالى الجزيرة كل الحق فى أن يشعروا بالريبة وعدم الثقة ويرفضوا البيع كلية كما هو الحال بالفعل. فقد عرضت الحكومة تعويض الملاك مقابل مبلغ زهيد من المال أو أرض بديلة فى الريف، وتقدر قيمة أرض الجزيرة الحقيقية بحوالي 22 ضعف المبلغ المعروض من قبل الحكومة. وبالفعل قام بعض الملاك الذين يسكنون خارج الوراق ببيع أرضهم بالجزيرة للحكومة، التى لم تعطهم نسخة من العقد ولم تسدد لهم أية أموال أيضا.
تعرض الحكومة شراء المتر المربع بسعر حددته عام 2016 قبل تعويم الجنيه 4 مرات متصلة، فقد خلالها 82% من قوته الشرائية، لتستقر عند مبلغ 1428 جنيها، بينما سعر المتر المربع في الوحدات السكنية المطلة على الناحية الأخرى من نهر النيل، الذي تبيعه الحكومة يزيد عن 40 ألف جنيه حاليا.
وتطلب الحكومة شراء الفدان الزراعي، بمبلغ 6 ملايين جنيه، بينما ستحول الأرض إلى استثمار عقاري، لتتعدى قيمة الفدان – مساحة الفدان 4200 متر مربع- مليارات الجنيهات.
يتهم الأهالي الحكومة بأنها تريد السيطرة على أملاكهم بالقوة، للتخلص من بعض الفقراء، لصالح الأغنياء والأجانب الذين يساهمون في بناء وشراء وحدات المشروع الجديد، الذي يأتي ضمن رغبة حكومة في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر للقطاع العقاري الذي يعاني من حالة ركود متصاعدة، منذ 3 سنوات.
في العاشر من مايو 2001 أصدر رئيس الوزراء حينها، عاطف عبيد، قرارًا برقم 542 لسنة 2001 باعتبار أراضي جزيرتي الوراق والذهب من أعمال المنفعة العامة. كان هذا القرار إعلانًا صريحًا لنية الحكومة السيطرة على جزيرة الوراق. اندفع الأهالي في تظاهرات عارمة ورفعوا دعوى ببطلان القرار. وقد أيدت المحكمة حق جزيرة أهالي جزيرة الوراق في ملكية منازلهم وأراضيهم مما دفع رئيس الوزراء أن يصدر القرار رقم 484 لسنة 2001 في يونيو 2001 بأنه لن يتم التعرض لمنازلهم أو الأراضي التي تقع تحت سيطرتهم ويملكونها، ونصت المادة الأولى من القرار بأنه لا يجوز إخلاء أي مبنى من المباني السكنية المقامة من تاريخ العمل بهذا القرار في جزيرتي الذهب والوراق، كما لا يجوز التعرض لحائزي الأراضي الزراعية بالجزيرتين. رأى أهل جزيرة الوراق أن قرار رئيس الوزراء غير كافِ لحفظ حقوقهم في الأراضي الزراعية والمنازل، فقاموا برفع دعوى قضائية ضد قرار رئيس الوزراء، وقضت محكمة القضاء الإداري في 27 يوليو 2001 بإلغاء قرار رئيس الوزراء رقم 542 لسنة 2001 والذي قضى بتقرير أراضي جزيرتي الوراق والذهب من أعمال المنفعة العامة.
المحاولة الحكومية الثانية للسيطرة على أراضي جزيرة الوراق
كان إنشاء الطريق الدائري هو الباعث لخطط الحكومة في السيطرة على أراضي جزيرة الوراق في محاولتها الأولى في عام 2001 والتي انتهت بحكم قضائي ضمن لأهالي الجزيرة حقوقهم، وكان إنشاء محور روض الفرج هو الباعث للمحاولة الثانية والحالية التي تحاول فيها الحكومة السيطرة على أراضي جزيرة الوراق، إلا أن المحاولة هذه المرة أشد شراسة ومنعدمة الأخلاق وتطوي القانون وترمي به في سلة المهملات فقط لطرد الأهالي إرضاء لشركاء السلطة من الإماراتيين.
انطلقت إشارة عدوان السلطة المستبدة على أهالي جزيرة الوراق من قائد هذه السلطة حين تحدث للمرة الأولى عن جزيرة الوراق في يونيو 2017 وقال “كنت بتكلم مع دولة رئيس الوزراء وقلت له إن فيه جزر موجودة في النيل المفروض ميبقاش حد موجود عليها. مش كده ولا ايه؟” انطلقت بعدها كافة أجهزة الدولة في حملة ترويع وتهجير واعتقالات بل وقتل في محاولة لطرد الأهالي والسيطرة على أراضي الجزيرة.
وكرر السيسي الحديث عن وضع جزيرة الوراق حين قال “جزيرة موجودة في وسط النيل، مساحتها أكتر من 1250 فدان -مش هذكر اسمها- وابتدت العشوائيات تبقى جواها والناس تبني وضع يد. لو فيه 50 ألف بيت هيصرفوا فين؟ في النيل اللي إحنا بنشرب فيه؟”. وأضاف: “الجزر الموجودة دي تاخد أولوية في التعامل معاها“.
بالطبع لم يكن الوضع داخل جزيرة الوراق بنفس الوصف الذي وصفها به السيسي، بل إن الواقع يشير إلى تواجد ثلاث مدارس حكومية على أرض الجزيرة، ونقطة شرطة، ومحطة مياه، ومكتب بريد. وتحصل جميع المرافق الحكومية بالوراق على الكهرباء بشكلٍ رسمي. وفي الغالب يستخدم الأهالي توافر المرافق والخدمات بهذه الطريقة لتكون دليلًا على إثبات الاعتراف الرسمي من جانب الدولة على تواجدهم بهذه المناطق.
قرار ينفي صفة المحميات الطبيعية عن جزيرة الوراق
كانت جزيرة الوراق محمية طبيعية طبقًا لقرار رئيس الوزراء 1969 لسنة 1998 واعتبار الجزيرة محمية طبيعية كان أحد العوامل التي تجلب الطمأنينة لأهالي الجزيرة، إلا أنه في 15 يونيو 2017 صدر قرار رئيس الوزراء رقم 1310 لسنة 2017 والذي أسقط بموجبه صفة المحمية الطبيعية عن 17 جزيرة ومنها جزيرة الوراق.
اعتبر أهالي جزيرة الوراق هذا القرار إعلانًا صريحًا من الحكومة للمرة الثانية بتنفيذ تعليمات السيسي بإخلاء الجزيرة وطرد الأهالي منها.
اندلاع المواجهات
في صباح السادس عشر من يوليو/ تموز 2017 استيقظ أهالي جزيرة الوراق على أصوات صراخ نساء وأطفال يواجهون آلات الحفر العملاقة، التي تسعى لهدم منازلهم فوق رؤوسهم، وتصدح مكبرات الصوت في مآذن المساجد باستغاثات تطالب الجميع بالدفاع عن الجزيرة ضد هجوم قوات الأمن عليهم.
فقد قامت جحافل من أفراد الجيش والشرطة باقتحام الجزيرة النيلية، وشرعوا في هدم عدد من المنازل، واشتبكوا مع المواطنين الذين رفضوا ترك بيوتهم، وطاردوهم في الشوارع والحقول، وأطلقوا عليهم الرصاص الحي والرصاص المطاطي، وقنابل الغاز، فارتقى أحد أفراد الجزيرة شهيدا، كما أصيب واعتقل العشرات في محاولة لإجبار أهلها على تسليم أراضيهم وبيوتهم، تنفيذا لقرار حكومي بإخلاء الجزيرة، وتسليمها لشركة إماراتية من أجل بناء مشروع استثماري سياحي فيها.
وبعد اشتباكات دامية، استبسل فيها الأهالي للدفاع عن أراضيهم ومنازلهم، اضطرت قوات الأمن للانسحاب، وتم إرجاء عملية الإخلاء خشية اتساع رقعة الصدامات، وتحوّلها لأحداث شغب موسعة، وذلك في ظل حالة الاحتقان والغضب لدى الشارع المصري من سوء الأحوال الاقتصادية، والارتفاعات الكبيرة في الأسعار، وتردي كافة الخدمات التي تقدمها الدولة.
وردا على اتهامات النظام المصري لأهالي الجزيرة، بأنهم اعتدوا على الأملاك العامة، نشر المحامي الحقوقي خالد علي في 17 يوليو/ تموز 2017 على صفحته في فيسبوك مستندات ملكية خاصة، وشهادات وفاة، تثبت حق أهالي جزيرة الوراق في منازلهم وأرضهم.
حيث أوضح أن مساحة الجزيرة الإجمالية تبلغ 1850 فدانا، منها 1810 أفدنة ملكيات خاصة، و40 فداناً فقط تملكها الحكومة، وأشار إلى نزاع سابق في بداية عام 2000 لنزع ملكية المواطنين بالجزيرة، إلا أن مجلس الدولة أصدر حكماً بوقف وإلغاء قرارات نزع الملكية، لافتا إلى صدور قرار من رئيس مجلس الوزراء الأسبق، عاطف عبيد، حمل رقم 848 لسنة 2001، بعدم جواز إخلاء أي مبنى مقام في جزيرتي الذهب والوراق، أو التعرض لحائزي الأراضي الزراعية فيهما.
وقد نشر المحامي عددا من المستندات تشمل شهادة وفاة لسيدة وُلِدت في الجزيرة منذ مائة عام، وعقود بيع مشهرة منذ عامي 1905 و1923 ميلادية، وعقدًا مشهرًا بتاريخ 1313 هجرية -بين سنتي 1895 و1896 ميلادية- ، ورخصة مبانٍ صادرة في عام 1994. وجميعها من أوراق ثبوت الملكية للأهالي، التي تدحض تماما ادعاءات النظام المصري.
وقد انتقد المحامي الحقوقي ذلك الهجوم الوحشي لقوات الأمن على الجزيرة، ومحاصرته لها بمنع المعدّيات (قوارب نهرية) من العمل، حيث وصف أوضاعهم بأنها شبيهة بـ “العالقين على حدود الدول المحتلة”. وأضاف مستنكراً: “مُنع المرضى من الذهاب إلى المستشفيات، والطلبة من الذهاب إلى امتحانات الدور الثاني، والمحامون من الذهاب إلى المحاكم، والموظفون والحرفيون من الذهاب إلى أشغالهم”، وختم بقوله: “أي عبث هذا الذي نحياه؟ وأي سلطة غاشمة تلك التي تقرر حصار مواطنيها على هذا النحو المجنون؟!”.
وانتقدت منظمات حقوقية ذلك الحصار المفروض على الجزيرة، عقب انسحاب قوات الأمن منها، وأشارت إلى محاولات السلطة تجويع السكان، حيث توقف المخبز الخاص بالجزيرة عن العمل لفترة من الوقت، بسبب عدم حصوله على حصة الدقيق اليومية من وزارة التموين، قبل أن تسمح شرطة المسطحات المائية بتشغيل معدّيات الجزيرة مرة أخرى، مع تمركز للشرطة النهرية بالقرب منها.
إلا أن عمليات الاقتحام، وحملات الاعتقالات تكررت خلال أعوام 2018 و2019 و2022 و2023، وأُصدِرَت أحكام بالسجن بحق كثيرين، لمدد تتراوح بين خمسة أعوام و25 عاما، والتهم هي: التجمهر واستعمال القوة والعنف وعرقلة تنفيذ قرارات الدولة. كما تم غلق المستشفى الوحيد الموجود في الجزيرة، ومكتب البريد الحكومي فيها، إمعانا في التنكيل بساكنيها.
وكانت تخرج المقاطع المصورة لأهالي الجزيرة، عقب كل اقتحام لها، يعلنون فيها تمسكهم بأرضهم، ورفضهم التام التخلي عنها، ويتظاهرون مرددين هتافات: “مش خارجين، مش خارجين، إحنا فيها ميتين”، و”هي بلدنا مش تكية، مش هنسيبها (نتركها) للحرامية”، و”جوا مصر من الوراق، مش في سوريا ولا العراق”.. وغيرها من العبارات الغاضبة، التي يعلنون فيها سخطهم على النظام العسكري مثل: “يسقط يسقط حكم العسكر”، و”إرحل يا سيسي”.
أحدث التطورات
بعد صدور قرار رئيس الوزراء يوم 26 يونيو 2024 بتحديد فترة زمنية لاخلاء اراضى وبيوت جزيرة الوراق والتي ستنتهي في 15 سبتمبر الحالي زادت السلطة من أعداد الأكمنة في الجزيرة وزيادة القوات بمعدل غير طبيعي في الجزيرة و خارج الجزيرة على المعديات ومنع نزول مواد البناء للأهالي. تجمع أهالي جزيرة الوراق لمنع لجان البيع المكلفة من قبل السلطة بالضغط على المواطنين، وبالفعل نجح الأهالي في وقف عمل لجان البيع، كما انسحب حكمدار الجيزة من اجتماع مع بعض الأهالي بعدما واجهوه بالحقائق الدامغة وحقوقهم المشروعة. قامت قوات الأمن بمحاضرة جزيرة الوراق من كافة الاتجاهات، إلا أن أهالي الجزيرة استطاعوا كسر حصار الأمن للجزيرة. كما دعا الأهالي إلى إضراب شامل في كافة أنحاء الجزيرة. قامت صفحة جزيرة الوراق على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بنشر بعض من الانتهاكات التي ارتكبتها السلطة في حق أهالي جزيرة الوراق وهي:
- قتل أحد أبناء الجزيرة والذي واجه الشرطة دفاعاً عن بيته وأسرته التي أُهينت على أيدي الشرطة بالضرب والإهانة بأبشع الألفاظ والعبارات.
- تلفيق التهم لأكثر من ١٠٠ من أهالي الجزيرة للضغط والترهيب والإجبار على البيع.
- هدم المستشفى القروي الوحيد الموجود بالجزيرة والذي يخدم أكثر من ١٠٠ ألف مواطن من أهالي الجزيرة.
- هدم مركز الشباب وهو المتنفس الوحيد لشباب القرية.
- إغلاق مكتب البريد والذي يقتصر دوره على صرف معاشات كبار السن والأرامل وبعضهم تخطى من العمر الثمانين.
- إغلاق ثلاث معديات من الخمسة الموجودة في الجزيرة لنقل الأهالي من وإلى الجزيرة.
- الحصار المحكم المفروض على الجزيرة منذ أكثر من ٧ سنوات والذي يمنع الأهالي من أبسط حقوقهم من صيانة للصرف الصحي والكهرباء وغيرها.
وأضاف أهالي الجزيرة:
“وجودنا في الجزيرة سواء قبل التطوير أو بعده ليس منة أو عطفا من أحد علينا فهذا حق لأهالي الجزيرة بموجب القوانين المصرية والدولية وسنظل ندافع عنه حتى يقضي الله امراً كان مفعولا”.
مجلس عائلات الوراق الديمقراطية الشعبية لمواجهة خطط الدولة
قام أهالي جزيرة الوراق بتأسيس مجلس عائلات الوراق في 27 أكتوبر 2018. في أول اجتماعات مجلس عائلات الوراق أصدر وثيقة تأسيس كان أهم بنودها ما يلي:
- حق الشهيد سيد علي (الذي قتل خلال تنفيذ حملات إزالة المباني) واجبٌ على كل أهالي الجزيرة، ونطالب بمحاسبة من قتل وتسبب في قتله، وإعلام الأهالي بما تم ضدهم من إجراءات، حيث إنه لا أحد فوق القانون، وتعويض مادي وأدبي لأسرة الشهيد، واعتباره شهيدًا من قبل الدولة.
- لا تفاوض على أرض جزيرة الوراق.
- لا حوار مع أي مسئول قبل عرض خطة تطوير وتخطيط جزيرة الوراق من قبل الدولة على مجلس العائلات لإجراء حوار مجتمعي حولها؛ لتفادي أكبر قدر من الأضرار الناجمة عن هذا التطوير، وتحديد موقف الأهالي من هذا التطوير.
- الأراضي المزروعة والمباني المنشأة على أملاك الدولة تقنن أوضاعها أسوة بما تم في المحافظات الأخرى سواء بالإيجار أو الشراء.
- جميع اللجان المنبثقة من مجلس العائلات ليس لها حق اتخاذ القرار إلا بعد العودة إلى المجلس التأسيسي لمجلس العائلات لاتخاذ القرار.
- يحظر العمل الفردي إلا بتكليف من مجلس العائلات سواء لأعضاء المجلس أو للأفراد غير الممثلين في مجلس العائلات.
- في حال رغبة أي مسئول في الحوار مع مجلس العائلات يكون ديوان عام القرية هو مقر الاجتماع.
- انعقاد مجلس العائلات يتم بشكل دوري في الجمعة الأخيرة من كل شهر، ويحدد جدول أعماله من قبل اللجنة المختصة بالتنظيم والإدارة، وفي حالة الضرورة تتم الدعوة لاجتماع طارئ لمجلس العائلات.
فضيحة دولية جديدة للسلطة
قامت مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بالحق في السكن اللائق وعدم التمييز ،ليلاني فرحة، بزيارة إلى مصر في الفترة من 24 أيلول/سبتمبر إلى 3 تشرين الأول/أكتوبر 2018 لتقصي الحقائق حول الشكوى المتعلقة بالحق في السكن. وأعربت المقررة الأممية عن قلقها إزاء الحملة الأمنية التي شنتها السلطات المصرية بحق الأشخاص الذين التقتهم خلال الزيارة، حيث هُدّمت منازلهم أو طردوا منها أو اعتقلوا. وقالت المقررة الخاصة إنها صُدمت من طريقة تعامل السلطات المصرية مع المجموعات التي التقتها في آخر زيارة رسمية أجرتها إلى مصر. وأضافت فرحة أن مصر “فشلت في الالتزام بالتطمينات التي قدمتها لي بعدم مضايقة أو ترهيب أو الانتقام من أي شخص للقائه بي أو إعطائي أنا أو أي من أعضاء الوفد المرافق لي معلومات. وأفادت بأنه بعد مهمتها التي استمرت من 24 سبتمبر/أيلول إلى 3 أكتوبر/تشرين الأول الماضيين، “تعرضت عدة عائلات من مجتمعيْن محليين زارتهما إلى عمليات إخلاء قسري تتناقض مع القانون الدولي لحقوق الإنسان”. وأضافت المسؤولة الأممية أن السلطات المصرية فرضت قيودا على تواصلها مع أهالي جزيرة الوراق في القاهرة، متهمة تلك السلطات بالفشل في الالتزام بتعهداتها في القضاء على انتهاكات قوانين حقوق الإنسان الدولية. وقالت “تم هدم منازل مكونة من طوابق عدة، وألقيت المفروشات في الشارع، وتم تشريد السكان. ومن بين المنازل والشقق التي استهدفت، تلك التابعة لأفراد عائلات قادة المجتمعات المحلية الذين التقيتهم”.
النقاط الواردة في تقرير الأمم المتحدة عن جزيرة الوراق
- بموجب القانون الدولي يعتبر الإخلاء القسري انتهاكًا جسيمًا لقانون حقوق الإنسان.
- أعربت المقررة الأممية عن شعورها بالذعر بشكل خاص من محاولة الإخلاء القسري في جزيرة الوراق في 16 يوليو 2017.
- أعربت المقررة الأممية عن خوفها أن تقع جزيرة الوراق فريسة لما أسمته (تسليع السكن) وقد تصبح هذه الظاهرة أكثر سوءًا مع النوايا التي أعلنتها الحكومة مؤخرا لتسويق العقارات في مصر كمنتج تصديري عن طريق جذب الاستثمارات الخارجية للبلاد.
- يتم تلفيق التهم الجنائية للسكان الذين يرفضون بيع أراضيهم للحكومة.
- يشعر السكان في جزيرة الوراق بالخوف من النزوح بالرغم من صلتهم التاريخية بالأرض فضلًا عن وجود سجلات ملكية لدى البعض منهم.
الخاتمة
من الثابت عن السلطة المستبدة في مصر أنها تتبع فقط الطريقة الأمنية لترويع المواطنين والسيطرة عليهم من خلال الترهيب والاعتقال والأحكام بالسجن، بل وتصل إلى درجة القتل خارج إطار القانون. ومن الجدير بالذكر أن السلطة الحالية اشتهرت في جميع أنحاء العالم بأنها سلطة مستبدة وقمعية وتخرج التقارير الدورية من مختلف الجهات سواء كانت حقوقية أو رسمية مثل تقارير وزارات الخارجية في العالم وعلي رأسهم الخارجية الأمريكية تتهم السلطة بالاستبداد والقمع.
اتهمت السلطة الحالية المطالبين بحقوق الإنسان والمدافعين عنها بأنهم خونة يتلقوا تعليمات من جهات خارجية أطلقت عليهم مصطلح أهل الشر، وردت السلطة على المواطنين الذين يدافعون عن أرضهم وبيوتهم مطالبين بالحياة الكريمة بالاعتقال والضرب والتعذيب والتشويه لصالح راعي السلطة الإماراتي للسيطرة على واحدة من أهم الأماكن في البلاد.
لا تعبأ السلطة المستبدة في مصر بالقانون أو الدستور الذي وضعته على عينها والذي يجرّم التهجير القسري.
لم تكن جزيرة الوراق هي المعركة والمواجهة الوحيدة بين السلطة ومواطنيها؛ بل سبقها الصراع مع أهالي مثلث ماسبيرو ونزلة السمان والعديد من الأماكن في مصر.
خيار القبول بأرض بديلة فى الريف هو خيار ظالم بالنظر بشكل مجرد للفرق بين مستوى الخدمات والفرص بين الريف والعاصمة. هذا طبعا اذا افترضنا صدق نوايا الحكومة فى تعويض الأهالى أو وجود أية ضمانات حقيقية.
برهنت السلطة المنقلبة في تعاملها مع المواطنين العاديين وفقراء الشعب أنها لا تعبأ بهم وبأحوالهم، وأنها ترى أولئك المساكين عقبة أمام تحقيقها المزيد من المكاسب النفعية للفئات المرتبطة بتلك السلطة، مشروعة كانت تلك المكاسب أو كما في أغلب الأحوال غير مشروعة، وذلك تحت ظل السلاح الرسمي للدولة المصروف عليه من أموال أولئك الفقراء والذي نجحت مجموعات المصالح في أن تستأثر به وتوظفه لصالح أغراضها الذاتية.