مقدمة
تُعد العدالة الانتقالية نهجًا شاملًا لمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال فترات الصراعات أو الأنظمة الاستبدادية. تهدف إلى تحقيق العدالة للضحايا وتعزيز المصالحة الوطنية ومنع تكرار الانتهاكات في المستقبل.
كما تدلل العدالة الانتقاليّة على كيفية استجابة المجتمعات لإرث الانتهاكات الجسيمة والصّارخة لحقوق الإنسان. وتطرحُ بعضًا من أشدّ الأسئلةِ صعوبةً في القانون والسياسة والعلوم الاجتماعيّة. إنَّ العدالة الانتقاليّة تُعنى، أوّلًا، بالضّحايا، قبلَ أي اعتبارٍ آخر.
لماذا العدالة الانتقالية …. ومتى بدت؟
وتعود الجذور الفكرية لمصطلح العدالة الانتقالية إلى أعقاب الحرب العالمية الثانية عندما شهد العالم شتى أشكال العنف والانتهاكات الجسيمة والخطرة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وكذلك بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحصول تغيرات سياسية في بعض دول أوروبا الشرقية والتي تجاوزت فيها العدالة الانتقالية فكرة المحاكمات وتضمنت آليات أخرى. ثم كانت الولادة الحقيقية لهذا المفهوم في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي التي شهدت تحولات سياسية للتخلص من الأنظمة الديكتاتورية التي ارتكبت كثيراً من الانتهاكات لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى البحث عن نظام سياسي يعمل على حماية الحقوق والحريات الأساسية.
تهدف العدالة الانتقالية إلى الاعتراف بالضحايا، وتعزيز ثقة الأفراد في مؤسسات الدولة، وتدعيم احترام حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون، كخطوة نحو المصالحة ومنع الانتهاكات الجديدة.كما تهدف إلى السيطرة على الفوضى الثأرية الناتجة عن انعدام الثقة في عدالة الدولة.
وقد أظهرت مبادرات العدالة الانتقالية مرارًا وتكرارًا أنه يمكنها أن تساهم في معالجة المظالم والانقسامات. وتحقيقًا لهذه الغاية، يجب أن تكون هذه العمليات محددة السياق، ووطنية، وأن تركز على احتياجات الضحايا. وبالتالي، يمكنها أن تربط المجتمعات وتمكّنها وتحوّلها، فتساهم في السلام المجتمعي المستدام.
تمثل العدالة الانتقالية إطاراً يتبناه المجتمع بهدف الانتقال من الصراع أو القمع إلى مجتمع أكثر استقرارًا وعدالة. غالبًا ما تكون رحلة العدالة الانتقالية تحديًا، تتطلب توازنًا دقيقًا بين مطالب العدالة وحاجة السلام والاستقرار.
وهنا لابد من توضيح أن العدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية في كونها تُعنى بالفترات الانتقالية مثل: الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم، أو الانتقال من حكم سياسي تسلطي إلى حالة الحكم الديمقراطي، أو التحرر من احتلال أجنبي باستعادة أو تأسيس حكم محلي، وكل هذه المراحل تواكبها في العادة بعض الإجراءات الإصلاحية الضرورية وسعي لجبر الأضرار لضحايا الانتهاكات الخطيرة.
الحاجة إلى العدالة الانتقالية:
تعتبر العدالة الانتقالية ضرورية للمجتمعات التي تخرج من فترات من الصراع، أو القمع، أو الحكم الاستبدادي. لأنها تساعد في معالجة شكاوى الضحايا، ومحاسبة الجناة، وإيجاد أساس للسلام المستدام والتنمية. وبالإضافة إلى ذلك، تساهم في إعادة بناء الثقة في المؤسسات وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان والديمقراطية.
أهداف العدالة الانتقالية:
تهدف العدالة الانتقالية إلى الاعتراف بضحايا تجاوزات الماضي على أنّهم أصحاب حقوق، وتعزيز الثقة بين الأفراد في المجتمع الواحد، وثقة الأفراد في مؤسسات الدولة، وتدعيم احترام حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون وبالتالي، تسعى العدالة الانتقالية إلى المساهمة في المصالحة ومنع الانتهاكات الجديدة.
- الاعتراف بالضحايا: ونقصد هنا بالضحايا هم الذين تعرضوا لانتهاكات في الحقوق الأساسية لهم في عهد حكم مستبد في الماضي. لا يقتصر الأمر فقط على الاعتراف بأنهم ضحايا للحكم المستبد، بل ويمتد إلى الكشف عن حقيقة الانتهاكات التي تعرضوا لها، ومحاسبة المسئولين الذين تورطوا في هذه الانتهاكات، بالإضافة إلى تعويض هؤلاء الضحايا وإعادة تأهيلهم في محاولة لدمجهم في المجتمع ومحاولة استعادة الثقة في مؤسسات الدولة والمجتمع. إن الاعتراف بالضحايا من خلال ما سبق يعد اللبنة الأساسية في المصالحة المجتمعية واستباب الأمن الداخلي للدولة والمجتمع.
- المحاسبة من خلال ملاحقة مرتكبي الانتهاكات ومساءلتهم. تبدأ المحاسبة بالخطوة الأولي والأساس فيها وهي تحديد الجناة تحديداً علمياً موضوعياً بعيداً عن الأهواء الشخصية والميول الانتقامية من خلال جمع الأدلة التي تثبت تورط هؤلاء الجناة في ارتكاب انتهاكات بحق الضحايا من خلال لجان تقصي الحقائق المستقلة. المسائلة هنا لا يجب أن تكون من خلال القوانين التي سنها النظام البائد. تثبت المسائلة أركان الدولة التي اهتزت بفعل الممارسات الاستبدادية التي اتبعها النظام السابق، كما أنها تمهد إلى المصالحة المجتمعية.
- جبر الضرر: ﺗﺴﻌﻰ ﺁﻟﻴﺔ ﺟﺒﺮ ﺍﻟﻀﺮﺭ ﺇﻟﻰ ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ ﺍﻻﻧﺘﻬﺎﻛﺎﺕ ﺍﻟﻤﻨﻬﺠﻴﺔ ﻟﺤﻘﻮﻕ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺗﻘﺪﻳﻢ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ التعويضات ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ والمعنوية ﻟﻠﻀﺤﺎﻳﺎ ﻭﻗﺪ ﺗﻜﻮﻥ ﺍﻟﺘﻌﻮﻳﻀﺎﺕ ﻓﺮﺩﻳﺔ ﺃﻭ ﺟﻤﺎﻋﻴﺔ، ﻭﻗﺪ ﺗﺸﻤﻞ ﺍﻟﺘﻌﻮﻳﺾ ﺍﻟﻤﺎﻟﻲ، ﻭﺍﻟﺨﺪﻣﺎﺕ ﺃﻭ ﺍﻟﺒﺮﺍﻣﺞ ﺍﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﻭﺍﻟﻄﺒﻴﺔ، ﻭﺍﻟﻤﻨﺢ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻴﺔ ﺃﻭ ﺇﺻﻼﺡ ﻣﻨﺎﻫﺞ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ، ﻭﺇﺣﻴﺎء ﺍﻟﺬﻛﺮﻯ، ﻭﺇﺭﺟﺎﻉ ﺃﻭ ﺇﻋﺎﺩﺓ ﺗﻮﺯﻳﻊ ﺍﻷﺭﺍﺿﻲ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﻤﺘﻠﻜﺎﺕ ﺍﻷﺧﺮﻯ، ﻭﺍﻻﻋﺘﺬﺍﺭ ﺍﻟﻌﻠﻨﻲ. ﻭﺍﻷﻫﻢ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﻫﻮ ﺃﻥ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻥ ﺍﻟﺪﻭﻟﻲ ﻳﻌﺘﺮﻑ ﺑﺤﻖ ﺍﻟﻀﺤﺎﻳﺎ ﻓﻲ ﺟﺒﺮ ﺍﻟﻀﺮﺭ، ﻣﻤﺎ ﻳﻌﻨﻲ ﺃﻧﻪ ﻳﻘﻊ ﻋﻠﻰ ﻋﺎﺗﻖ ﺍﻟﺪﻭﻝ ﺍﻟﺘﺰﺍﻡ ﺇﻳﺠﺎﺑﻲ ﺑﺘﺼﻤﻴﻢ ﻭﺗﻨﻔﻴﺬ ﺑﺮﺍﻣﺞ ﺟﺒﺮ ﺍﻟﻀﺮﺭ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻠﺒﻲ ﺍﺣﺘﻴﺎﺟﺎﺕ ﺍﻟﻀﺤﺎﻳﺎ، ﻛﻤﺎ ﻳﺤﺪﺩﻫﺎ ﺍﻟﻀﺤﺎﻳﺎ ﺃﻧﻔﺴﻬﻢ. ﺇﺫﺍ ﺗﻢ ﺗﻨﻔﻴﺬ ﺁﻟﻴﺔ ﺟﺒﺮ ﺍﻟﻀﺮﺭ ﻛﻤﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ، ﻓﻘﺪ ﺗﺼﺒﺢ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﺍﻟﻌﻨﺼﺮ ﺍﻟﻤﻜﻤﻞ ﻭﺍﻟﻔﻌﺎﻝ ﻭﺍﻟﺴﺮﻳﻊ ﻟﻌﻤﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﺘﻘﺼﻲ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻭﻣﺒﺎﺩﺭﺍﺕ ﺍﻟﻤﻼﺣﻘﺔ ﺍﻟﻘﻀﺎﺋﻴﺔ، ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺇﺗﺎﺣﺔ ﺳﺒﻞ ﺍﻧﺼﺎﻑ ﻣﻠﻤﻮﺳﺔ ﻟﻠﻀﺤﺎﻳﺎ ﻭﺗﻌﺰﻳﺰ ﺍﻟﻤﺼﺎﻟﺤﺔ ﻭﺍﺳﺘﻌﺎﺩﺓ ﺛﻘﺔ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ، ﻭﺑﻬﺬﺍ، ﻳﻤﻜﻦ ﺣﺘﻰ ﻟﺒﺮﺍﻣﺞ ﺟﺒﺮ ﺍﻟﻀﺮﺭ ﺍﻟﻤﺆﻗﺘﺔ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﺨﺼﺼﺔ ﻷﻏﺮﺍﺽ ﻣﺤﺪﺩﺓ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﺗﺪﺍﺑﻴﺮ ﻣﻬﻤﺔ ﻟﺒﻨﺎء ﺍﻟﺜﻘﺔ، ﺧﺎﺻﺔ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻤﻜﻦ ﺍﻟﻤﻮﺍﻓﻘﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻭﺇﺩﺍﺭﺗﻬﺎ ﻗﺒﻞ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻭﺿﻊ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭ
- الإصلاح المؤسسي ويشمل إصلاح الأجهزة الأمنية والقضائية لمنع تكرار الانتهاكات. وهنا يتم التركيز على الأجهزة الأمنية لأنها مسئولة مسئولية مباشرة عن أغلب، إن لم تكن كافة الانتهاكات التي تم ارتكابها سواء بالفعل المباشر بممارسة الانتهاكات كطقس يومي مستمر، أو من خلال التستر على مرتكبي الانتهاكات من الأفراد المنتسبين إلى تلك الأجهزة. أما بالنسبة إلى السلطة القضائية فيتم محاسبتها لأنها تسترت على الانتهاكات التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية، وفي بعض الحالات قامت بتشريع الانتهاكات وتقنينها من خلال قوانين جائرة.
- المصالحة الوطنية، وهي الهدف الأسمى من العدالة الانتقالية لإعادة بناء المجتمع على أرضية مشتركة تقبل الجميع بالرغم من كل اختلافاتهم من خلال حوار وطني شامل لبناء الثقة بين مختلف فئات المجتمع، فبعد الإرث الكبير من انتهاكات حقوق الإنسان، تتجه المجتمعات إلى فقدان الثقة بحكم القانون، وبآليات العدالة التقليديّة، ويظهر ذلك جليّاً في الدول التي تعاني من الحروب والنزاعات الأهلية، حيث يتشكّل لديها الدافع القوي للرغبة بالانتقام، وهو ما يدخل المجتمع في دوّامة لا نهائيّة من العنف والعنف المتبادل. كما تهدف العدالة الانتقالية إلى إصلاح مؤسسات الدولة، وعلى رأسها مؤسسة الجيش والأمن، وكافة المؤسسات المتورطة في ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان، أو التي لم تمنع ارتكابها. وبهذا تكون قد منعت، وإلى حد كبير، تكرار هذه الانتهاكات في المستقبل.
التحديات والاشكاليات التي تواجه تطبيق العدالة الانتقالية:
على الرغم من أهمية العدالة الانتقالية للانتقال من الحكم اللاديمقراطي (الديكتاتوري و المستبد) إلى حكم ديمقراطي حر، وإعادة بناء مؤسسات الدولة وتعزيز قدرات المجتمع إلا أنها تواجه العديد من التحديات نلخص منها:
- المقاومة السياسية من قبل الجماعات والحكومات التي ارتكبت الانتهاكات أو تستفيد من الوضع الراهن. في حال تطبيق العدالة الانتقالية يتحول أركان وأفراد النظام البائد من سادة إلى متهمين يجب مسائلتهم لذلك يحاولون بشتى الطرق تعطيل مسيرة العدالة الانتقالية، بل ويحاولون اثناء الأفراد والجماعات وقوى المجتمع التخلي عن فكرة العدالة الانتقالية برمتها. من ناحية أخرى يسيطر الصراع على الفترات الانتقالية بين القوى السياسية والأفراد الراغبون في لعب دور أكبر أو التطلع لممارسة السلطة مما يعرقل جهود العدالة الانتقالية.
- ضعف المؤسسات: خلال الحكم الاستبدادي تصاب المؤسسات الأمنية والقضائية بالوهن الشديد الذي من المرجح أن يوصلها لعدم القدرة على تطبيق آليات العدالة الانتقالية، ويشمل ضعف المؤسسات هنا أيضا عدم رغبة هذه المؤسسات في التعرض للمحاسبة عن طريق العدالة الانتقالية لذا تحاول بشتى الطرق عرقلة جهود العدالة الانتقالية.
انقسامات المجتمع: قد يكون من الصعب تحقيق المصالحة الوطنية في ظل وجود انقسامات عميقة بين مختلف فئات المجتمع. والانقسامات هنا تكون إما صراعات سياسية بين أفراد وقوى سياسية تتطلع إلى القيام بدور أكبر في مستقبل البلاد أو تتطلع إلى الحكم، لذا فهم يرون تقديم الاستحقاقات السياسية على العدالة الانتقالية لرغبتهم في السيطرة على مقاليد الحكم البلاد، وقسم آخر من الانقسامات هي الانقسامات الاجتماعية، فتتسم الفترات الانتقالية بحالة من السيولة في المشاعر و الأفكار مما يولد انقسامات خطيرة قد تهدد جهود العدالة الانتقالية.
العدالة الانتقالية في القانون الدولي
في بدايات تطبيق العدالة الانتقالية كانت جزء لا يتجزأ من القانون الدولي خاصةً بعد الحرب العالمية الثانية ومحاكمات نورمبيرغ وهي هي سلسلة من المحاكم العسكرية التي عقدتها قوات الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية وفقًا للقانون الدولي وقوانين الحرب. وحققت المحاكمات شهرتها الأكبر نظرًا لمحاكمة مسؤولين كبار في القيادة السياسية، والعسكرية، والقضائية، والاقتصادية في ألمانيا النازية، والذين كانوا ضالعين في التخطيط، أو التنفيذ، أو المشاركة بوجه من الوجوه في الهولوكوست وغيرها من جرائم الحرب. عقدت المحاكمات في نورمبيرغ بألمانيا، ومثّلت أحكامها نقطة تحول في سير القانون الدولي من الكلاسيكي إلى المعاصر.
تُعتبر محاكمات نورمبيرغ أولى المحاكمات وأكثرها شهرة لأنها تمثل محاكمة كبار مجرمي الحرب أمام المحكمة العسكرية الدولية. ووصفها السير نورمان بيركيت، أحد القضاة البريطانيين الحاضرين طوال المحاكمة على أنها أعظم محاكمة في التاريخ. عقدت المحكمة بين 20 نوفمبر 1945 و1 أكتوبر 1946، وأُوكِل إليها مهمة محاكمة 24 من أهم القادة السياسيين والعسكريين للرايخ الثالث.
مع التطور في تطبيقات المفهوم تم توسيع مجالات اهتمامات العدالة الانتقالية لتشمل العديد من الآليات والأهداف التي تنتمي للعديد من المجالات العلمية والبحثية، لاسيما مع إسهامات علماء القانون والسياسية والاجتماع والأنثروبولوجي والمؤرخين، ورجال دين، والصحفيين ونشطاء حقوق الإنسان.
تجارب العدالة الانتقالية في العالم جنوب افريقيا نموذجًا
لا يمكن فهم آليات ومفاهيم ومجالات تطبيق العدالة الانتقالية بدون دراسة حالات الدول التي تم تطبيق العدالة الانتقالية فيها. ونذكر عدد من التجارب الدولية ومنها على سبيل المثال:
تجربة العدالة الانتقالية في جنوب افريقيا.
عاشت جنوب أفريقيا عقودًا تحت وطأة نظام تمييز عرقي ساد مختلف مناحي الحياة. ارتكزت سياسات الفصل العنصري على فرضية تفوق العرق الأبيض على ما سواه من الأعراق. وسخرت القوانين والممارسات لتكريس أيدلوجية تفوق العرق الأبيض. صاغ نظام الفصل العنصري قوانين لترسخ هيمنة العرق الأبيض وإحكام قبضته على مفاصل المجتمع ودواليب الدولة ودوائرا لاقتصاد. إلا أن سيطرة هذا النظام وجبروته لم تمنع تشكيل جبهة معارضة قوية نمت داخل جنوب أفريقيا واتسعت دائرتها لتشمل البعد الإقليمي بالإضافة إلى البعد الدولي.
جملة من الأحداث قد أضعفت نظام الفصل العنصري منها رفض منظمة الوحدة الأفريقية التي تأسست في عام 1963
بدأت تجربة العدالة الانتقالية في جنوب أفريقيا في نهايات عهد الفصل العنصري الذي حكمت من خلاله الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا من عام 1948 وحتى تم إلغاء النظام في الأعوام 1990- 1993 وأعقب ذلك انتخابات ديموقراطية عام 1994. هدف نظام الفصل العنصري إلى خلق إطار قانوني يحافظ على الهيمنة الاقتصادية والسياسية للأقلية ذات الأصول الأوروبية.
استندت هذه السياسة على مبادئ الفصل العنصري بين المستوطنين البيض الحاكمين وبين السكان السود أصحاب الأرض الأصليين، وتفضيل الإنسان الأبيض على الإنسان الأسود في جميع المجالات.
بدأت تجربة العدالة الانتقالية في جنوب أفريقيا في سياق التحضير لنهاية نظام الفصل العنصري، وأخذت شكل محاكمات شعبية أطلق عليها قامت بها لجان الحقيقة والمصالحة، عهد إليها بإماطة اللثام عن التجاوزات والجرائم وإنصاف الضحايا وصولًا إلى تسوية غير جزائية للملفات العالقة. في البداية، نجحت التجربة بصفة خارقة في جنوب أفريقيا. وأدى إطلاق سراح نلسون مانديلا عام 1990 بعدما قضى 27 سنة في السجن، إلى مفاوضات بين حكومة جنوب أفريقيا العنصرية والمؤتمر الوطني الأفريقي وإلى عقد انتخابات في العام 1994. ثم في عام 1995، أعطى برلمان جنوب أفريقيا تخويلًا بتأسيس لجنة الحقيقة والمصالحة التي أصدرت في العام 1998 تقريرًا تضمّن شهادات أكثر من 22,000 ضحيّة وشاهد، حيث جرى الإدلاء بألفي شهادة في جلسات استماع علنية.
شكلت لجنة الحقيقة والمصالحة اللبنة الاساسية في مشروع العدالة الانتقالية في جنوب أفريقيا. دعت لجنة الحقيقة والمصالحة ضحايا الانتهاكات السافرة ابان عهد الفصل العنصري ليكونوا شهوداً في المحاكمات وتم اختيار البعض منهم ليدلوا بإفاداتهم في جلسات استماع علنية وكانت الشهادات تتم أمام اللجنة المنعقدة بهيئة محكمة ويقوم مدعون بجلب ضحايا ليقدموا شهادات مضادة، بغرض الوصول إلى الحقيقة.
لجنة الحقيقة والمصالحة لعبت دوراً محورياً في اعادة اللحمة الوطنية دون اهدار لحقوق ضحايا النظام السابق ودون حرمان الطبقة الحاكمة السابقة من فرصة اعادة تأهيلها.
تم تشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة تنفيذاً لبنود قانون ترويج الوحدة والمصالحة الوطنية، رقم 34 في 1995، وكان مقرها في كيپ تاون. تفويض اللجنة كان للاستماع إلى، وتسجيل، شهادات وفي بعض الحالات منح عفو لمرتكبي جرائم متعلقة بانتهاك حقوق الإنسان، والتعويضات واعادة الأهلية. وقد ضمت لجنة الحقيقة والمصالحة عدداً من الأعضاء ذائعي الصيت: كبير الأساقفة دزموند توتو (رئيساً)، د. ألكس بورين (نائب الرئيس)، ماري برتون، المدعي كريس ده ياگر، بونگاني فينكا، پوملا گوبودو-ماديكيزلا، سيسي خامپپه، ريتشارد ليستر, Wynand Malan, Reverend خوزا مگوجو, Hlengiwe Mkhize, Dumisa Ntsebeza (رئيس وحدة التحقيق)، Dr. Wendy Orr, Advocate Denzil Potgieter, Mapule Ramashala, Dr. فاضل راندرا، ياسمين سوكا وگلندا ڤيلدشوت.
ألقت التحولات الداخلية والتطورات المتسارعة على الساحة الدولية بكلكلها على بنية الحزب الوطني الحاكم في جنوب أفريقيا ، حيث برز تيار داخله يطالب بضرورة نسج ملامح نظام سياسي يلطّف من العقيدة العنصرية على نحو يضفي المشروعية على النظام الحاكم. وبالمثل، تبلور داخل حزب المؤتمر نقاش بشأن جدوى العدول عن منهج الكفاح المسلح والتركيز على المقاومة السلمية. ورهن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وقف العمل المسلح والشروع في المفاوضات بالاستجابة لجملة من الشروط، من ضمنها رفع حالة الطوارئ وإطلاق سراح السجناء والاتفاق على آلية لوضع مشروع دستور جديد. ثم ساهمت الإجراءات التلطيفية التي أقدم عليها دوكليرك في تعضيد أنفاس الثقة؛ إذ إضافة إلى إطلاق سراح مانديلا في فبراير/ شباط 1990 ورفع حالة الطوارئ في يونيو/ حزيران 1990 وإلغاء بعض القوانين العنصرية، أُفرج عن المعتقلين السياسيين لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي ورُفِع المنع المفروض على التنظيمات السياسية للسود. وفي 4 مايو |أيار 1990 ، أبرم الطرفان اتفاقًا عُرف بدقيقة (جروت شور).
وحرصٍا من أعضاء لجنة الحقيقة والمصالحة، وخوفاً من شبح الماضي البغيض، حرصت على استبدال العدالة العقابية بالعدالة التصالحية المبنية على مبدأ الاعتراف مقابل العفو حرصاً على بناء مستقبل قائم على التعايش السلمي. تقتضي هذه السياسة منح العفو على أساس الأفعال والجرائم المرتكبة في حق الضحايا، في مقابل إماطة اللثام عن حقيقة ما جرى في الماضي. بهذا الترجيح، رسم الدستور المؤقت الأفق الذي حكم صياغة البرلمان لقانون المصالحة الوطنية.
خلافًا للّجان التي استُحدثت في أميركا اللاتينية، كانت لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا تتمتع بصلاحيات استثنائية، مثل الاستدعاء والتحقيق في الانتهاكات وإصدار التوصيات، إضافة إلى صلاحية شبه قضائية تتمثل في منح عفو فردي بناء على طلب صريح، شرط سرد طالبي العفو تفصيلات أفعالهم. كما اشترط القانون أن يكون سبب الانتهاك سياسيًا، وأن يكون قد تقرر في إطار منظمة مثل الشرطة والجيش أو الكنيسة أو الحزب. وبعد دراسة الطلبات والموافقة عليها، تُعرض القضايا على البرلمان من أجل تصديقها وتأكيد قرار العفو، ومن أصل 7112 طلبَ عفوٍ، منحت اللجنة العفو ل 819 من مرتكبي الانتهاكات. تتمثّل وظيفة لجنة الحقيقة والمصالحة الجوهرية في إلقاء الضوء على وقائع محدّدة سياسيًا، وإعداد قائمة بطبيعة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ومداها وأسبابها، وتأهيل الضحايا واستعادة كرامتهم من خلال الاستماع إلى قصصهم وجبر ضررهم المادي والمعنوي.
ربما كانت نتائج عمل لجنة الحقيقة والمصالحة إيجابية بالنسبة للضحايا ومحاولات جبر الضرر، لكن على جانب محاسبة مرتكبي الانتهاكات لم تكن على نفس المستوى من الإيجابية، حيث أن معظم الجهود التي بُذلت لتحقيق المحاسبة عن الجرائم المرتكبة خلال حكم التمييز العنصري باءت بالفشل. أجاز قانون لجنة الحقيقة والمصالحة عرضًا مثيرًا للجدل “العفو من أجل الحقيقة” لمرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان الذين رغبوا بالاعتراف. وتم العفو الرئاسي الخاصّ بالرئيس السابق ثابو مبيكي.
في عام 2008، أعلنت محكمة بريتوريا العليا عدم دستورية تعديلات سياسة الملاحقة القضائية. وفي العام 2010، أيّدت المحكمة الدستورية حقّ الضحايا باستشارتهم قبل منح العفو السياسي.
على الرغم من هذه الانتصارات، لا يوجد حاليًّا أمام المحاكم ولا حتّى حالة واحدة من الحالات التي أُوصي بملاحقتها قضائيًّا، ما جعل الضحايا يتقدّمون بشكاوى تصف عملية التشاور بأنّها غير ذات فحوى. محاسبة الشركات الدولية وجبر الضرر
في 2002، قامت مجموعة دعم خولوماني، وهي منظّمة ضحايا جنوب أفريقيين، بمقاضاة 23 شركة متعدّدة الجنسيات، ومن ضمنها شركة فورد موتور وجنرال موتورز وأي بي إم في محكمة في الولايات المتّحدة، للتعويض المادي عن الأضرار المدنية التي ألحقتها هذه الشركات من خلال دورها في انتهاكات حقوق الإنسان الجماعية خلال فترة التمييز العنصري.
في عام 2007، وفي حكم تاريخي هام، سمحت المحكمة الأمريكية للضحايا بتقديم مطالبهم للتعويض. ومنذ مارس 2011، تنظر المحكمة بطلب قدّمته الشركات لإسقاط القضية، بحجّة أنّ القانون العرفي الدولي لا ينصّ على مسؤولية الشركة في انتهاكات قانون حقوق الإنسان الدولي، ولاتزال القضية مثارة حتى ألآن.
وفي النهاية ففي تجربة جنوب أفريقيا تم الاكتفاء بالاعتراف بما تم من الانتهاكات خلال الحكم العنصري عن طريق لجان استماع للضحايا وللجناة أيضا مع استبعاد خيار المتابعة خصوصاً بالنسبة للفاعلين السياسيين الذين شاركوا في وضع حجر الأساس للانتقال الديمقراطي وإقرار سيادة القانون والمساواة بين المواطنين واحترام حقوق الإنسان.
كان للعدالة الانتقالية في جنوب إفريقيا بالغ الأثر في السلم المجتمعي ورفاهية ورخاء الدولة والمجتمع مما انعكس ايجاباً على مستوى حياة المواطنين.
يُعد اقتصاد جنوب أفريقيا الثاني على القارة الإفريقية بناتج محلى وصل إلى 400 مليار دولار في عام 2011 إلا أنه انخفض إلى 283 مليار دولار في عام 2020.
بفضل العدالة الانتقالية التي أدت إلى التعايش السلمي والسلم المجتمعي ارتقت مكانة جنوب أفريقيا في المحيط الإقليمي والدولي ومن أبرز الأمثلة التي تدلل على ذلك قيام جنوب أفريقيا برفع دعوي في محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل للمطالبة بوقف العدوان الإسرائيلي على غزة مما يعزز مكانة جنوب أفريقيا في المحيط العالمي.
هل مرت مصر بعد ثورة يناير بمرحلة العدالة الانتقالية؟
اندلع الربيع العربي في مصر عندما انتفض المصريون في الخامس والعشرين من يناير عام 2011 مطالبين بإسقاط النظام الذي كان يرأسه الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك طيلة 3 عقود منذ عام 1981. عيش… حرية … عدالة ….. كرامة كان الشعار الذي وحد كافة فئات المجتمع المصري ممثلا لمطالب شعبية اتفق عليها المصريون دون اتفاق. استطاعت هذه الحشود الهادرة بعد ثمانية عشر يوماً من الاعتصام في كافة ميادين وشوارع مصر وفي القلب منها ميدان التحرير في القاهرة أن تجبر مبارك على التنحي عن منصبه في الحادي عشر من فبراير 2011.
حالة التوافق المجتمعي والسياسي التي كانت فيها البلاد، أفراداً وقوى سياسية تبخرت بعد تنحي مبارك، وبدلاً من إعادة بناء الدولة بالمواصفات التي كانت التاج لكل شعارات المتظاهرين وهي الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة والعادلة والتي تحقق ما طالب به الجميع من عيش وحرية وكرامة وعدالة، انتهت حالة التوافق هذه مبكراً وسيطر الانقسام والرغبة في السيطرة على الشارع للوصول للحكم على كافة القوى السياسية في مصر.
كان الجميع يتطلع إلى عدالة انتقالية تقتص من أركان ومسئولو نظام مبارك على الجرائم التي ارتكبوها بحق قطاعات متنوعة من المصريين على مدار العقود الثلاثة التي قضاها مبارك في الحكم، إلا أن هذه الأمنيات ذهبت أدراج الرياح.
نظم المركز الدولي للعدالة الانتقالية مؤتمراً إقليمياً في القاهرة عن العدالة الانتقالية في الفترة بين 30 – 31 أكتوبر 2011٬ ساد جلساته شعوراً عاماً بالتفاؤل. وفي ظل ذاك المناخ أتت المحاسبة الجنائية وإصلاح المؤسسات على رأس أولويات النقاش السياسي.
منذ الإطاحة بحسني مبارك في 11 فبراير 2011 وتولي المجلي العسكري إدارة البلاد ازدادت وتيرة الدعوات الشعبية لاعتقال مبارك ومحاكمته على الجرائم التي ارتكبها أثناء فترة حكمه وعن الانتهاكات التي ارتكبها نظامه أثناء الثورة المصرية حيث قًتل 840 واصابة أكثر من 6000.
في الثامن من ابريل 2011 تظاهر الالاف (وأشارت بعض التقديرات أن أعداد المتظاهرين في هذا اليوم تخطت المليون متظاهراً من المصريين في ميدان التحرير بوسط القاهرة فيما أطلقوا عليه ” جمعة المحاكمة والتطهير” مطالبين المجلس العسكري بمحاكمة مبارك. على إثر الضغط الهائل الذي مارسه الشارع المصري أعلن النائب العام حينئذ عبد المجيد محمود استدعاء مبارك ونجليه علاء وجمال للتحقيق معهم في اتهامات بشأن “اتصالهم بجرائم الاعتداء على المتظاهرين وسقوط قتلى وجرحى” خلال ثورة 25 يناير التي ادت للإطاحة به في 11 شباط/ فبراير 2011. وفي 2 يونيو 2011 تم الإعلان عن بدء أولى جلسات المحاكمة في 3 أغسطس 2011. وبعد 46 جلسة المحاكمة التي رأسها القاضي أحمد رفعت والاستماع إلى الشهود ومنهم ( رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة المشير حسين طنطاوي ونائب الرئيس الأسبق مبارك، اللواء عمر سليمان ) أصدر القاضي أحمد رفعت الحكم على مبارك والعادلي بالسجن المؤبد وبراءة مساعدي وزير الداخلية في قضية قتل المتظاهرين وبراءة مبارك من تهمة الفساد المالي وبراءة نجليه علاء مبارك وجمال مبارك من التهم المنسوبة اليهما.
تم الطعن على الحكم بالسجن المؤبد على مبارك والعادلي وتم قبول الطعن وفي نوفمبر 2014 قضت محكمة جنايات القاهرة بعدم جواز الدعوى بمقاضاة الرئيس المصري السابق حسني مبارك في قضية قتل المتظاهرين خلال ثورة يناير 2011.
في مارس 2017 برّأت محكمة النقض المصرية الرئيس السابق، محمد حسني مبارك، من تهمة قتل المتظاهرين إبان ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011.ويعد هذا الحكم باتا ونهائيا، ولا يجوز الطعن عليه.
بين انشغال القوى السياسية بالوصول للسلطة والتنافس فيما بينها، وبين مناورات المجلس العسكري، وبين محاكمة مبارك وقيادات حكمه بنفس القوانين التي وضعوها ضاعت الفرصة على الثورة المصرية لمحاكمة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة بحق المصريين.
المرحلة الثانية من مشروع العدالة الانتقالية في مصر (ونحن نتحدث هنا عن مراحل متداخلة ومتشابكة، وليس عن مراحل متتابعة) بدأت المرحلة الثانية بتكليف مبارك، في بيان التنحي، المجلس العسكري بإدارة شئون البلاد، تلك الخطوة كانت بداية لعهد جديد يمسك فيه الجيش المصري بمقاليد السلطة بشكل مباشر ومن الواجهة، وليس من خلال رئيس ذو خلفية عسكرية.
وقعت في عهد المجلس العسكري عدة مجازر راح ضحيتها المئات من المصريين، ويعتبر المراقبون وشهود العيان أن المجلس العسكري مسئول مسئولية مباشرة عن تلك الأحداث، التي يطلق عليها الذين شاركوا فيها والمعاصرين لها ” مجازر” مما يضع المجلس العسكري في مرتبة مرتكبي ليس فقط انتهاكات بل جرائم قتل جماعي متعددة ويستحق المحاكمة عليها عن طريق مبادرات العدالة الانتقالية.
بداية أحداث أو مجازر القتل الجماعي بدأت بما يسمي قضية كشوف العذرية ( وهي ليست كشوفاً للعذرية بقدر ما كانت اعتداءات جنسية ) و هي قضية بدأت أحداثها في 9 مارس 2011 تتعلق بتعرض نساء محتجات قبض عليهن في ميدان التحرير للتعذيب على أيدي عسكريين تابعين للجيش، بما في ذلك إخضاعهن «لفحوصات العذرية». فعقب إخلاء المحتجين من ميدان التحرير بالعنف في 9 مارس، قامت الشرطة العسكرية باحتجاز ما لا يقل عن 18 امرأة في الحجز العسكري، وتعرضن للضرب وللصعق بالكهرباء، وأخضعن لعمليات تفتيش بعد تعريتهن، بينما قام جنود ذكور بتصويرهن، ومن ثم أخضعن «لفحوصات لعذريتهن» وهددن بتوجيه تهم البغاء إليهن.
قالت منظمة العفو الدولية إن اللواء أركان حرب عبد الفتاح السيسي رئيس الاستخبارات العسكرية وعضو المجلس الأعلى قد برر إجراء هذه الاختبارات كوسيلة لحماية الجيش من الاتهام بالاغتصاب.
عبد الفتاح السيسي، مدير المخابرات الحربية آنذاك اعترف بقيام أفراد من الجيش المصري بالقيام بكشوف العذرية على سيدات وفتيات من المتظاهرين في ميدان التحرير، وبرر ذلك حتى لا يُتهم الجيش بالاغتصاب”
في 11 مارس 2012 حكمت المحكمة ببراءة أحمد عادل طبيب مجند في الجيش المصري قام بعملية الكشف على عذرية الناشطات
مجزرة ماسبيرو
تظاهر مجموعة من أقباط مصر ضمن فعاليات ما يسمي ” يوم الغضب القبطي” واتجهوا في مسيرة من شبرا الخيمة حتى مبني الإذاعة والتلفزيون في ماسبيرو بالقاهرة ردّاً على قيام سكان من قرية المريناب بمحافظة أسوان بهدم كنيسة قالوا أنها غير مرخصة، وفض اعتصام الأقباط يوم 4 مارس بالقوة وقيام جنود من الشرطة العسكرية بالضرب المبرح للشاب رائف فهيم أحد المتظاهرين. تحولت إلى مواجهات بين المتظاهرين وقوات من الشرطة العسكرية والأمن المركزي أفضت إلى مقتل حوالي 28 شخصًا بالإضافة لأكثر من 321 مصاب أغلبهم من الأقباط. قامت مدرعات الجيش بدهس بعضاً من المتظاهرين
مينا دانيال، هو أحد أشهر ضحايا مذبحة ماسبيرو. كان ناشطا بحركة شباب من أجل العدالة والحرية، نجا من الموت مرتين، ومات في الثالثة بقذيفة اخترقت صدره ونفذت من ظهره، نُقل بعدها للمستشفى القبطي في محاولة لإنقاذه، إلا أنه كان قد لفظ أنفاسه الأخيرة، عن عمر يناهز 23 عاما.
استمرت إجراءات التقاضي في ساحة المحكمة العسكرية على مدار عام وأكثر بعد الأحداث، شهد انسحاب هيئة الدفاع عن المتهمين المدنيين، تحديدًا منتصف أبريل 2012، احتجاجًا على إجراءات التقاضي العسكرية و«محاكمة المجني عليهم»، ليُغلَق ملف القضية بحكم بسجن المجندين الثلاثة المتهمين، بواقع عامين للمتهمين الأول والثاني و3 أعوام للمتهم الثالث بتهمة «القتل الخطأ»، كما قضت محكمة جنايات شمال القاهرة برئاسة المستشار صلاح رشدي، في فبراير 2013، بمعاقبة متهمين مدنيين في الأحداث هما مايكل عادل نجيب ومايكل مسعد شاكر، بالسجن المشدد لمدة 3 سنوات، لإدانتهما بسرقة سلاح ناري آلي «رشاش» تابع للقوات المسلحة.
قالت هيومن رايتس ووتش إن سيطرة المؤسسة العسكرية المصرية على التحقيق في واقعة استخدام القوة ضد متظاهرين أقباط عُزل ليلة المصادمات في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2011 يثير المخاوف إزاء محاولة إخفاء حقيقة ما حدث. وعلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة – الحاكم العسكري لمصر – أن يحيل التحقيق في الواقعة من النيابة العسكرية إلى جهة تحقيق مستقلة ومحايدة تماماً، لتحقق في مقتل المتظاهرين العُزل على يد قوات من الجيش. أدى العنف إلى مقتل نحو 24 متظاهراً وماراً وإلى مقتل عنصر واحد على الأقل من الجيش.
أحداث 19 نوفمبر أو أحداث محمد محمود هي اشتباكات ومظاهرات وقعت في ميدان التحرير ومحيطه وشارع محمد محمود في قلب القاهرة عقب مظاهرة في ميدان التحرير أطلق عليها جمعة المطلب الواحد، وبسبب قيام قوات الأمن فض اعتصام أسر شهداء ثورة يناير بالقوة. وبدأت الأحداث من يوم السبت 19 نوفمبر 2011 حتى الجمعة التالية 25 نوفمبر 2011. أدت الأحداث إلى مصرع 60 متظاهر بالإضافة إلى آلاف المصابين، وفقاً لتقرير لجنة تقصي الحقائق وكانت الكثير من الإصابات في العيون والوجه والصدر بالإضافة إلى حالات الاختناق نتيجة استخدام الغاز المسيل للدموع.
قرر المجلس القومي لحقوق الانسان تشكيل لجنة لتقصي الحقائق حول المذبحة برئاسة محمد فايق رئيس المجلس وجاء في تقرير اللجنة ” تعرض المتظاهرون لإجراءات قمع لم تشهد البلاد لها نظيراً منذ ثورة يناير 2011 وسقط بسببها أكثر من 60 قتيلاً و ما يزيد عن 4500 مصاباً.
لم يتم محاكمة أي مسؤولاً عن تلك المجازر خاصة وزير الداخلية منصور العيسوي الذي صرح قائلاً بأن وزارة الداخلية ليس لديها خرطوش.
تلت أحداث محمد محمود أحداث أخرى وهي أحداث مجلس الوزراء التي بدأت في 16 ديسمبر 2011 وانطلقت الاشتباكات يوم 16 ديسمبر/ كانون الأول 2011، وذلك خلال فترة حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة للبلاد، على خلفية اعتصام خارج مبنى رئاسة الوزراء جاء حينها اعتراضا على تعيين كمال الجنزوري رئيسا للوزراء.
ووفقا لتقارير صحفية، تابعة للمجلس العسكري أن الاشتباكات بدأت بعد أن اعتدى عناصر من الأمن على أحد المتظاهرين بعد دخوله مبنى رئاسة الوزراء. وأشارت التقارير إلى أن المتظاهر كان قد دخل لاسترجاع كرة قدم كان المعتصمون يلعبون بها لقضاء وقتهم. ” والتقى الباحث كاتب هذا التقرير مع شهود عيان شهدوا الواقعة بأن المتظاهر لم يدخل إلى مجلس الوزراء بل كان مع أصدقائه يلعبون الكرة وعندما اتجهت الكرة إلى أحد أفراد الأمن في الشارع قامت قوات الأمن بالاعتداء عليه وسحله على الأسفلت”
وبينما اتهم المتظاهرون حينها القوات الأمنية بالمبادرة بالاعتداء عليهم، اتهمت جهات التحقيق المتظاهرين بالضلوع في حرق مبنى المجمع العلمي المصري القريب من المكان ومقاومة السلطات وإتلاف المباني والمنشآت العامة. وكانت أغلب مواجهات المتظاهرين مع أفراد من قوات الجيش.
راح ضحية الأحداث 17 قتيلاً و أكثر من 9000 مصاباً، وكان من أبرز من قتلته قوات الأمن الشيخ عماد عفت، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية.
محكمة جنوب القاهرة حاكمت 269متهما في القضية في يوليو/تموز عام 2012، بتهم من ضمنها إتلاف وتخريب الممتلكات العامة وإضرام الحريق عمدا في بعض المنشآت وتعطيل المرور. ولم يتم محاسبة أو محاكمة أي مسئول من قوات الأمن أو الجيش.
قضت الدائرة الثانية إرهاب، بجلستها في 16 فبراير/ شباط 2023، والمنعقدة بمجمع محاكم بدر، برئاسة المستشار محمد حماد، وعضوية المستشارين محمد عمار والدكتور علي عمارة، بسجن 3 متهمين 7 سنوات، والحبس 5 سنوات لمتهم، وألزمت المحكمة المحكوم عليهم بدفع 17 مليون و622 ألف جنيه قيمة التلفيات متضامنين مع باقي المتهمين.
ويعد الناشط السياسي البارز أحمد دومة، الذي صدر بحقه عام 2020 حكم نهائي بالسجن المشدد 15 عاما وغرامة 6 ملايين جنيه مصري (حوالي 330 ألف دولار أمريكي)، أحد أشهر المتهمين في القضية.
في الثالث من يوليو 2013 قاد اللواء عبد الفتاح السيسي، قائد الجيش المصري، وزير الدفاع انقلاباً على أول رئيس مدني انتخبه المصريون في انتخابات حرة ونزيهة أُجريت في عام 2012 لتبدأ مجموعة مختلفة من المجازر التي قامت بها قوات الأمن والجيش، والتي وُصفت بأنها أكبر المجازر في تاريخ مصر الحديث.
مجزرة الحرس الجمهوري:
في فجر يوم 8 يوليو 2013 فتحت قوات الجيش في محيط دار الحرس الجمهوري المصري النار علي معتصمين مؤيدين للرئيس السابق محمد مرسي مطالبين بعودته لسدة الرئاسة. أدى ذلك لمقتل 61 شخصًا وفقًا لتقرير أخير لمصلحة الطب الشرعي، وأصيب أكثر من 435 آخرين أثارت هذه الأحداث ردود فعل منددة من التيارات الإسلامية كافة، كما أدانتها القوى السياسية الأخرى. لم يتم محاكمة أو محاسبة أي مسئول من قوات الأمن والجيش على هذه المذبحة، بل وعلى النقيض من ذلك تم اعتقال مشاركين في هذا الاعتصام الذين يعتبرون من الضحايا ومحاكمتهم وسجنهم منذ عام 2013 حتى وقت كتابة هذا التقرير.
مجزرة النصب التذكاري ( المنصة):
في 27 يوليو 2013 اعتدت قوات الأمن و الجيش بطريق النصر بجوار ميدان رابعة العدوية بالقاهرة على المتظاهرين والمعتصمين، من مؤيدي الرئيس محمد مرسي رحمه الله أدت إلى مقتل 75 شخصًا كلهم من المعتصمين وأصيب حوالي ألف متظاهراً في مصادمات بين قوات الأمن المصرية ومؤيدي الرئيس محمد مرسي، رحمه الله وذلك بعد انتهاء مليونيه «إسقاط الانقلاب» التي دعا إليها تحالف دعم الشرعية.
تضاربت الأنباء حول عدد ضحايا الأحداث، حيث أعلنت وزارة الصحة عن مقتل 75 شخصاً وإصابة عدد يزيد عن الألف شخص. في حين أعلنت قناة الجزيرة مباشر مصر أن المستشفى الميداني برابعة العدوية استقبلت 120 من الضحايا القتلى ونحو 4500 جريحًا.
مجزرة ميدان رابعة العدوية
هي أكبر مذبحة في تاريخ مصر الحديث في يوم واحد حيث قامت قوات الأمن والجيش بفض اعتصامي رابعة والنهضة من مؤيدي الرئيس محمد مرسي رحمه الله.
فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة كما تُعرف باسم مذبحة رابعة هو عملية عسكرية حدثت في 14 أغسطس 2013، حيث قامت قوات الشرطة والجيش بالتحرك لفض اعتصامات المعارضين لانقلاب 3 يوليو 2013 في مصر. الاعتصامات الرئيسية كانت في ميدان رابعة العدوية في القاهرة وميدان النهضة بالجيزة. اختلفت التقديرات حول عدد القتلى والمصابون في الأحداث حيث جاء تقرير وزارة الصحة المصرية بـ 670 قتيلا ونحو 4400 مصابا من الجانبين، وصفت منظمة هيومن رايتس ووتش ما حدث بأنه على الأرجح جرائم ضد الإنسانية[ وأخطر حوادث القتل الجماعي غير المشروع في التاريخ المصري الحديث. نفت الحكومة المصرية ومنظمات حقوق الإنسان المصرية هذا التقرير ووصفته بأنه مسيس. وقدم الدكتور محمد البرادعي استقالته من منصب نائب الرئيس المؤقت، احتجاجاً على الأحداث، الذي قام بتعيينه وزير الدفاع في بيان الانقلاب.
وقد وثق باحثو هيومن رايتس ووتش فض اعتصام رابعة ووجدوا أن قوات الأمن فتحت النيران على المتظاهرين باستخدام الذخيرة الحية، فقتل المئات بالرصاص الموجه إلى رؤوسهم وأعناقهم وصدورهم. ووجدت هيومن رايتس ووتش أيضاً أن قوات الأمن استخدمت القوة المميتة دون تمييز، إذ كان القناصة المتمركزون داخل ناقلات الأفراد وبجوارها يطلقون أسلحتهم على حشود كبيرة من المتظاهرين. قال عشرات الشهود أيضاً إنهم شاهدوا قناصة يطلقون النيران من مروحيات فوق منطقة رابعة.
وبعد يومين من فض اعتصامي رابعة والنهضة، في 16 أغسطس/آب، فتح رجال شرطة قسم الأزبكية، بحي العباسية في وسط القاهرة، فتحوا النار على مئات المتظاهرين الذين كانوا قد تجمعوا عقب صلاة الجمعة كجزء من “يوم للغضب” دعا إليه مؤيدو تحالف دعم الشرعية احتجاجاً على فض الاعتصامين والانقلاب على الرئيس مرسي. وفي سياق الساعات الست التالية قتل ما لا يقل عن 120 متظاهراً وشرطياً واحداُ، وفق مصلحة الطب الشرعي. كما حددت النيابة هوية اثنين من الشرطة قتلا.
“قال أحد كبار الضباط بقسم الشرطة لـ هيومن رايتس ووتش إن مسلحين اعتدوا على قسم الشرطة، مما أدى إلى الرد الحكومي. ورغم أن مهاجمة مسلحين لقسم شرطة قد تبرر استخدام القوة المميتة، إلا أن أعداد المتظاهرين القتلى، وأقوال الضحايا والشهود، وبينهم مراقبون مستقلون، ومقاطع الفيديو تظهر كلها إطلاق الشرطة العمدي للنيران على متظاهرين سلميين في معظمهم. قال شهود رأوا الجثث والجرحى في المستشفيات والمشارح، وبينهم عاملون بالحقل الطبي وصحفيون، قالوا لـ هيومن رايتس ووتش إن عدداً كبيراً من المتظاهرين تعرض لجراح في الرأس والعنق وأعلى الجسم، مما يثير التساؤلات عما إذا كان رجال الشرطة يطلقون النيران بقصد القتل.“
أدى التفريط في الفرصة الذهبية التي أتيحت للمصريين ابان ثورة يناير 2011 والتي كانت تتمثل في مشروع للعدالة الانتقالية متكامل الأركان إلى هذا الكم غير المسبوق من المذابح والتي راح ضحيتها عشرات الألاف من المصريين والزج بمئات الألاف في السجون حتى يومنا هذا مما تسبب في انشقاق مجتمعي وطغت مشاعر الكراهية بين فئات الشعب وفقد غالب المصريين الثقة في مؤسسات الدولة.
ويرجع جزء غير قليل من أسباب الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها البلاد إلى عدم تبني وتطبيق مشروع متكامل للعدالة الانتقالية كان سيعالج آثار الماضي ويفتح الباب إلى مستقبل من التعيش السلمي وبناء الدولة المدنية والديمقراطية الحديثة والعادلة في مصر.
الفصل الأخير من رواية غياب العدالة الانتقالية في مصر كان بنص دستور 2014. نصت المادة 241 من دستور البلاد، الصادر عام 2014، على أن “يلتزم مجلس النواب في أول دور انعقاد له بعد نفاذ هذا الدستور بإصدار قانون العدالة الانتقالية يكفل كشف الحقيقة، والمحاسبة، واقتراح أطر المصالحة الوطنية، وتعويض الضحايا وفق المعايير الدولية“.
عدالة انتقالية؟ أم عدالة انتقامية؟
استحدثت مصر وزارة العدالة الانتقالية بعد اصدار الدستور في عام 2014. هي وزارة مٌلغاة كانت مسئولة عن الإدارة السياسية للمرحلة الانتقالية بعد أحداث يونيو 2013 وضمان تنفيذ خارطة الطريق التي أصدرها المجلس الأعلى للقوات المسلحة إبان حكم الرئيس مرسي، آخر وزرائها كان المستشار / إبراهيم الهنيدي بعدما ضمت إليها وزارة مجلس النواب في وزارة إبراهيم محلب الثانية.
تلخصت أهداف الوزارة في النقاط التالية:
- ضمان العبور الآمن للمرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد بأقل تكلفة وأكثر عائد على نحو يدعم الوحدة الوطنية ويحقق المصالحة الوطنية الشاملة،
- تحديد المسائل والموضوعات التي تؤثر في وحدة نسيج المجتمع ووضع حلول جذرية لها وآليات تنفيذها،
- ترسيخ قواعد المساءلة ومعنى العدالة.
- دعم احترام حقوق الإنسان وتعزيز دور منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية ونشر ثقافة التسامح والعيش المشترك.
- تكريم المضارين من انتهاكات حقوق الإنسان في الفترات السابقة على المرحلة الانتقالية والعمل على جبر الإضرار مادياً ومعنوياً.
- الإصلاح والتطوير المؤسسي الكامل بما يضمن بناء نظام ديمقراطي يرسخ لقيم الديمقراطية التي تقوم على المشاركة وقيم الإدارة الرشيدة.
من الوهلة الأولى يعتقد من يقرأ عن استحداث وزارة للعدالة الانتقالية ويدرس الأهداف سالفة الذكر أن الدولة المصرية قررت أخيراً تبني رؤية للعدالة الانتقالية متمثلة في الدستور والوزارة، إلا أن كل هذه كانت وريقات لم تساو الحبر الذي دُونت به ولم تتخط أبداً مجالها النظري إلى ساحات التطبيق. ويرى البعض أنها كانت محاولة لاستمالة بعض القوى المدنية للمشاركة في انقلاب يوليو 2013 الذي قاده عبد الفتاح السيسي، ومما يدلل على صحة وجهة النظر هذه أن الدولة المصرية قررت الغاء وزارة العدالة الانتقالية بعد عام من إقرار الدستور، ومارست بالقوانين تحصين المجرمين والانتهاكات التي تقوم بها وقات الجيش والشرطة وعدم محاسبتهم للإفلات من المسائلة أو المحاكمة.
خاتمة
لابد أن تتوافر إرادة سياسية ومجتمعية قوية لدي القوى السياسية ومؤسسات الدولة لتطبيق العدالة الانتقالية بكافة مراحلها وأشكالها، إلا أنه ثبت من الدليل القاطع أنه لا تتوافر إرادة سياسية لدى مؤسسات الدولة في مصر لتبني رؤية العدالة الانتقالية.
يجب أن يدرك المتطلعون إلى مصر (الديمقراطية والقوية)، ومنهم المسئولون في مصر بأنه لا تنمية ولا تقدم ولا رخاء بدون سلام مجتمعي و مشاركة مجتمعية فاعلة، وأن المشاركة المجتمعية الفاعلة في بلد يموج بانقسامات وتصدعات خطيرة لابد لها من مصالحة سياسية واجتماعية شاملة. فلا أمن ولا رخاء بدون سلام اجتماعي، لن تستتب الأمور في مصر بدون مصالحة مبنية على رؤية شاملة وموضوعية للعدالة الاجتماعية.
يجب على المتطلعين إلى مصر ( الديمقراطية والقوية ) ومنهم المسئولين في مصر أن يدركوا جملة من الحقائق التي قد تكون غائبة عنهم وهي:
المصالحة المجتمعية والسياسية هي حجر الزاوية في بناء ما يطلقون عليه الجمهورية الجديدة ولتحقيق هذه المصالحة يجب تبني مشروع متكامل للعدالة الانتقالية.
منظومة العدالة الانتقالية لا تستهدف فقط محاكمة المسئولين عن ارتكاب انتهاكات فيما يخص حقوق الانسان، وإنما هي مشورع ومنظومة متكاملة لجبر الضرر وتعويض الضحايا ومحاكمة المسئولين مما يؤدي إلى المصالحة الشاملة التي تؤسس لبناء الدولة التي يحلم بها المصريون.
لا تتم إجراءات العدالة الانتقالية عبر مجريات القضاء العادي لأنها جزء من الأزمة حيث فقد عدد لابأس به من المصريين الثقة في المنظومة القضائية المصرية.
منظومة العدالة الانتقالية لا يتم وضعها عن طريق أحد أطراف النزاع بل من خلال جهة مستقلة تمام الاستقلال.
إن الانتهاكات الجسيمة التي وقعت في مصر، وبصفة خاصة بعد الثالث من يوليو 2013 يستحيل معها نجاح أي نظام ديمقراطي أو أي نظام حكم أو مشروعات للتنمية، ولابد من معالجة هذه الانتهاكات عن طريق العدالة الانتقالية مما يسمح بإعادة البناء على أرضية سليمة ومشتركة.
التوصيات
من الصعب في الوقت الحالي استخلاص توصيات عملية فيما يخص تطبيق العدالة الانتقالية في مصر وذلك لمركزية القمع في مصر ونظراً للأزمة الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة التي تعصف بالمصريين، ومن جهة أخرى تؤدي كل تلك الشواهد إلى سجن العدالة الانتقالية في الإطار البحثي النظري فقط.
إذا كنا بصدد بعض التوصيات فنرى أنها يجب أن تكون في مسارين بشكل متوازي، أولهما لمؤسسات الدولة المصرية التي من المفترض أن يكون ولائها للدولة والمواطن وليس لنظام حكم، وبالتالي يجب أن تقوم بما يمليه عليها دورها في الحفاظ على مقدرات الدولة المصرية، والمسار الآخر للمواطنين المهتمين بتحقيق حلم العيش والحرية والكرامة والعدالة التي ظلوا لسنوات مخلصين له.
أولاً: مؤسسات الدولة المصرية:
محاولة فتح ثقوب في المجال العام المغلق غلقاً مستبداً من قبل سلطة لا تعترف بأي حقوق للمصريين.
تغليب مسارات العدالة الاجتماعية، والنظر إلى أن الدولة المصرية ليست دولة فرد يمتلك قوة مستبدة، وإنما دولة مؤسسات وقانون.
الضغط على السلطات الأمنية والعسكرية للإفراج عن معتقلي الرأي في مصر، تمثل هذه الخطوة اللبنة الأولى التي يمكن البناء عليها ليس فقط في العدالة الانتقالية، بل في المصالحة الشاملة.
ثانياً: مسار الأفراد المهتمين بمشروع العدالة الانتقالية
توثيق الانتهاكات التي وقعت في مصر منذ ثورة يناير 2011 وحتى اللحظة الراهنة.
جمع الأدلة على مرتكبي الانتهاكات
البدء في حملات توعية من خلال كافة وسائل الاعلام خاصة وسائل التواصل الاجتماعي بأهمية العدالة الانتقالية.
نبذ سياسات العداء والمنابذة والقاء التهم جزافاً وتشجيع ممارسات تقبل الآخر والتعايش السلمي ( المصالحة المجتمعية).
الضغط في المحافل الدولية لتقوم بدورها بالضغط على السلطات المصرية بتحسين الحالة الحقوقية وإعادة الحقوق لأصحابها
يجب أن تبدأ القوى السياسية بجناحيها في الداخل والخارج في حوار مجتمعي وسياسي لتقريب وجهات النظر وليؤمن الجميع بأنهم جميعاً تحت مقصلة واحدة وهي مقصلة الاستبداد.
خاتمة
يجب على الجميع أن يدرك أنه لا خلاص على المستوى الفردي لأي من الضحايا من مختلف الاتجاهات، وإنما ينبع الخلاص هنا من فكرة الخلاص الجمعي، ويجب على الجميع العمل على ذلك من خلال تقوية لغة الحوار وتقبل الآخر والتعايش السلمي.
يجب على كل الفرقاء من القوي السياسية والأفراد أن يجتمعوا تحت راية الخلاص الجمعي من السلطة المستبدة وتدعيم لغة الحوار المشترك.
في النهاية يجب على مؤسسات الدولة في مصر العمل على مشروع متكامل للمصالحة الوطنية تكون لبنته العدالة الانتقالية إذا كانوا راغبين بخروج مصر والمصريين من بئر الأزمة الطاحنة التي على وشك القضاء على الأخضر واليابس، إذ توحي المؤشرات إلى أنه في حال استمرار الأمور في مصر على هذا المنوال واستمرت السلطات في انتهاج نفس السياسات الفاشلة فإن بركاناً من الغضب سينفجر في مصر ويقضى على البقية الباقية من البلاد، بل وقد يعرض مفهوم الدولة بحد ذاتها لخطر الزوال.
*تنويه هام*
- ستفرد مؤسسة مرسي للديمقراطية تقريرًا خاصًا عن تقرير تقصي الحقائق الذي قدم للرئيس محمد مرسي حول أحداث ثورة يناير وكان لتقديم نتائج حول الجرائم والانتهاكات أثناء وبعد ثورة يناير؟ ويطرح التقرير سؤلاً حول هل كان التقرير بداية لمرحلة انتقالية جديدة وما الذي أخفي من التقرير؟
- كما ستفرد المؤسسة أيضًا تقريرًا عن الأحداث التي اشتبك فيها الأمن في عهد الرئيس مرسي مع المتظاهرين مثل أحداث الاتحادية وأحداث المقطم “مكتب الإرشاد” وأحداث الجنود في سيناء، وتطرح سؤالًا حول سلطة الرئيس الأمنية ومواقفه من الأحداث؟