مقدمة:
دائمًا ما تثير قضية الدعم الحكومي للسلع الأساسية الكثير من النقاش والجدل حول مدى جدواه، ومقدار تحمل الموازنة العامة للدولة تكلفتها، بالإضافة لمستوى كفاءة النظام المتبع في تحقيق الأهداف المرجوة منه.
وتزداد الأصوات الحكومية والمنابر الإعلامية المؤيدة لسياسات النظام في مصر، كلما زادت صعوبة الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد لتطالب بإلغاء الدعم رغم ضعفه، تحت شعارات “ترشيد الدعم” وضرورة إيصال الدعم لمستحقيه، وضرورة استبدال الدعم العيني بالدعم النقدي أو البدل النقدي.
ومع تفاقم الأزمات الاقتصادية في البلاد، تتعالي مطالب دولية، سواء من منظمات دولية كصندوق النقد الدولي أو البنك الدولي بالإضافة لدول غربية بضرورة إعادة ترتيب منظومة السياسات الاقتصادية والاجتماعية المصرية بما يتماشى مع سياسة الاقتصاد الرأسمالي الدولي، لضمان الاستدانة من مؤسسات تمويلية دولية.
وعلى الجانب الآخر، فإن الأدبيات الاقتصادية، التي استغرقت لفترة زمنية طويلة في البحث عن حلول لهذه المشكلة، قدمت في الكثير منها الجوانب الحقيقية للمشكلة، من حيث كونها مجرد عرض لمرض أكثر عمقاً في جسد الاقتصاد المصري واختلالاته الهيكلية التي اتسعت عاماً بعد آخر بعد عام 1974 وانتهاج الدولة لسياسة الانفتاح الاقتصادي ثم ما زاد عليها من سياسات الإسراف في مشروعات غير ذي جدوى منذ عام ٢٠١٤م.
ما هو الدعم الحكومي؟
هو إمدادات مادية تقدّم من الحكومة وفق ميزانية الدولة لتخفيض أسعار السلع بشكل مباشر أو غير مباشر على سلع وخدمات أساسية.
رغيف الخبز في مصر ومنظومة الدعم
في الوقت الذي تُسجل فيه مصر أعلى معدل سوء تغذية خلال ربع قرن، بحسب بيانات مؤشر الجوع العالمي، زاد اعتماد المصريين على رغيف الخبز ليقوم بدور الطعام الرئيس منذ عدة عقود، وقد مثل دعم رغيف الخبز خطاً أحمراً لا يمكن تجاوزه لدى جميع الحكومات المتعاقبة ولكن شهدت الفترة الأخيرة من سياسات النظام تجاوز هذا الخط الحصين ليرتفع سعره خلال عشر سنوات 485%، وذلك باحتساب تقليص وزن الرغيف على مدار العقد، من 130 إلى 90 جرامًا، إضافة إلى ارتفاع سعره 4 أضعاف.
تُصر الحكومة المصرية على ادعائها بأنها لم تقترب من رغيف الخبز رفعًا لسعره أو نقصُا لوزنه رغم تحملها ما لا تطيق من أجل المصريين، إلا أن الأرقام تكّذب تصريحات الحكومة
قبل عام 1993 كان وزن رغيف العيش يبلغ 150 جرامًا، ووصل في عام 1993 وزنه إلى 130 جرامًا، وفي عام 2014 أنقصت الحكومة وزن رغيف الخبز من 130 جرامًا إلى 120 جرام، لتعود مرة أخرى وتنقص وزن الرغيف إلى 110 جرام، ولم تكتفِ بذلك، بل قامت في عام 2017 بتخفيض وزن الرغيف إلى 100 جرام، لتعود مرة أخرى وتتشجع بسبب قبول المصريين هذا الخفض المتتالي لتنقصه إلى 90 جرام.
خمسة أرغفة كانت توفر للفرد 650 جرامًا من الخبز، وتمده بسعرات حرارية ما بين 1600 إلى 1800. أما حاليًا، فخمسة أرغفة توفر 1100 – 1200 سعر حراري، وذلك في حالة حصول الفرد على خمسة أرغفة بالوزن الرسمي الذي أقرته وزارة التموين. على أرض الواقع، قد لا يوجد رغيف بوزن 90 جرامًا في مخابز العيش المدعم.
يعتبر المصريون أكبر مستهلك للخبز في العالم بمعدل سنوي يترواح بين 180 و210 كيلوجرامات للفرد، وهو ما يعد أكثر من ضعفيّ المتوسط العالمي البالغ 70-80 كيلوجرامًا للفرد سنويًا، بحسب الباحث بجامعة «أوكسفورد» عُدي كمال، في دراسته عن العيش البلدي المُدعم.
وفقًا للرئيس السابق لبحوث التحليل الاقتصادي للسلع الزراعية، أحمد عبد المجيد، فإن الطبقة الدُنيا والشرائح المنخفضة من الطبقة المتوسطة هي الأكثر اعتمادًا على العيش المدعم نتيجة تدني دخولهم، إذ يحصلون عبر خمسة أرغفة يوميًا على ما بين 40 إلى 50% من السعرات الحرارية.
ويمثل رغيف الخبز للأسر التي تستهلك كميات كبيرة من الخبز المدعم بديلاً أرخص لأنواع الطعام الأخرى الأغلى، ونتيجة هيمنة بعض الأطعمة مثل الفول والبطاطس والباذنجان وغيرها، على غالبية وجباتهم، يعد العيش جزءًا أساسيًا من الوجبة. أيضًا أكدت هذه الأسر أنها أصبحت تسحب كل الأرغفة المُستحقة يوميًا، بعدما كانت توفر بعضها مقابل الحصول على نقاط الخبز التي كانت تمنح عشرة قروش مقابل كل رغيف لا يتم صرفه، تستخدمهم الأسر لتحصل شهريًا على سلع بالقيمة الإجمالية المقابلة لعدد الأرغفة التي تخلت عنها لأن الأرغفة أصبحت أكثر نفعًا لغادة لأنها بديل أرخص من الأرز والمكرونة، كما تستخدم جزءًا من العيش لإطعام طيورها المنزلية، بعدما استغنت عن غالبيتهم وأبقت فقط على عدد قليل، نتيجة ارتفاع أسعار الأعلاف، لتستطيع توفير بروتين من حين لآخر.
هل زادت أسعار السلع التموينية في العقد الأخير بزيادة غير مسبوقة؟
يركز الخطاب الحكومي الرسمي، على أن “الدولة” تتحمل مشقة كبير لتوفير السلع المدعومة للمواطنين، ويناقض هذه التصريحات نسب ارتفاع أسعار السلع المدعومة على بطاقات التموين وفق زيادة ضخمة خلال العقد الأخير على النحو الآتي:
· ارتفعت أسعار الأرز بقيمة 236%.
· ارتفعت أسعار السكر بقيمة 165%.
· ارتفعت أسعار الزيت بنسبة 316%.
· ارتفعت أسعار الفول بنسبة 170%.
· ارتفعت أسعار العدس بنسبة 500%.
بطاقات التموين وأسباب حذف ملايين المواطنين:
في الثاني من يونيو وقبل إقالته من وزارة التموين صرح على المصيلحي وزير التموين بأن الوزارة قامت بحذف 20 مليون مواطن من بطاقات التموين، وبرر المصيلحي هذا الإجراء العنيف بأن بيانات المواطنين الذين قامت الوزارة بحذف أسماءهم كانت خاطئة. يُعيدنا هذا التصريح إلى ما نشرته صحيفة المصري اليوم في الثامن عشر من سبتمبر 2023 بأنه يوجد 14 حالة تتسبب في حذف اسم المواطن من بطاقات التموين وفق
الأسباب التالية:
1. تقاضي رب الأسرة راتب أعلى من 9600 جنيه شهريًا.
2. امتلاك سيارة حديثة موديل ما بعد 2017.
3. مصاريف مدارس تصل لـ 20 ألف جنيه فأكثر.
4. استهلاك فواتير كهرباء مرتفعة أكثر من 650 ك/ وات، بقيمة تتخطى 800 جنيه شهريًا أو أكثر.
5. امتلاك حيازة زراعية 10 أفدنة فأكثر.
6. دفع ضرائب 100 ألف جنيه فأكثر.
7. امتلاك شركة رأس مالها 10 ملايين جنيه أو أكثر.
8. سداد قيمة مضافة مرتفعة وذلك بالنسبة لأصحاب الأعمال.
9. أصحاب الصادرات أو الواردات المرتفعة.
10. في حالة وفاة أحد أفراد الأسرة وعدم التقديم بطلب لحذفه من بطاقة التموين.
11. في حالة سفر أحد أفراد الأسرة ولا يزال مدرج على بطاقة التموين.
12. عدم صرف الخبز أو السلع التموينية لمدة 6 أشهر متتالية.
13. في حالة التعدى على الأراضي الزراعية أو البناء عليها.
14. ترك البطاقة التموينية لدى البقال أو المخبز وتكرار ضبطها من الحملات التموينية.
وتستغل الدولة هذه البنود للتضييق على المواطنين في الحصول على الدعم من السلع التموينية. نجد أن الحكومة قد حددت بأن المواطن إذا تلقي دخلًا يزيد عن 9600 جنيهًا لن يحصل على بطاقة التموين، ولم تحدد الدولة على أساس حددت هذا المبلغ وهو أقل من ٢٠٠ دولار شهريًا كما أن العديد من الدراسات الحديثة أفادت بأن الأسرة المصرية تحتاج أكثر من 20 ألف جنيهًا (٤٠٠ دولار) فقط لتلبية الاحتياجات الأساسية لمعيشتها.
كما يوجد بنود أخرى لم تذكرها الحكومة تحدد منع المواطنين من بطاقات التموين وهي المعارضة، ومن أدرجوا على قوائم الحظر السياسي حيث حرصت الحكومة على معاقبة كل من يعارضها منذ 2013 وحتى اللحظة الراهنة بالحذف من بطاقات التموين.
دور صندوق النقد الدولي والدعم الحكومي للسلع
مارس صندوق النقد الدولي سياساته الاقتصادية النيوليبرالية في إقراض الدول، على مصر التي تعد من كبرى الدول المقترضة منه مما أدي هذا إلي سياسة انكماشية تتعلق بالسياسات المعادية للرفاه الاجتماعية والسياسات النقدية وسياسات المالية العامة للدولة وأثرها على سياسة الدعم للمحتاجين.
وقد أدى إلغاء الدعم على الطاقة المفروض من صندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى السياسات المالية التي لم تنجح في تقليل التضخم، إلى شن حرب طبقية ضد الفقراء. و قد كان صندوق النقد الدولي لاعباً محوريًا في تشكيل السياسة الاقتصادية في مصر في السنوات الأخيرة، فمصر هي حاليًا ثاني أكبر مقترض من صندوق النقد الدولي.
وبررت الحكومة إنهاء دعم الطاقة بكل تداعياته الاجتماعية الهائلة بسببين. السبب الأول هو أن الأغنياء استفادوا من الدعم أكثر من الفقراء لأن الأسر الأكثر ثراءً تستخدم الطاقة أكثر من الأسر الأقل دخلًا، والثاني، أن دعم الطاقة يضر بالبيئة لأن الطاقة الرخيصة توجّه الاستثمارات نحو القطاعات كثيفة استهلاك الطاقة وتشجع الاستهلاك المسرف للوقود.
وللتدليل على علي تدليس الحكومة في هذا الجانب، أكدت مراجعة الإنفاق العام في مصر الصادرة عن البنك الدولي عام 2022 أن حوالي نصف الفقراء المستحقين لم يتم إدراجهم في البرنامج بسبب أخطاء الاستبعاد.
هل سبب رفع الدعم عن الطاقة في دعم الصحة والتعليم
لم يستفد قطاعا الصحة والتعليم من الوفرة المالية الناتجة من التوقف عن دعم لحومة في موازنتها للطاقة.
وتظهر بيانات الموازنة العامة أن الكتلة الأكبر من الحيز المالي المتحقق حديثًا في مصر بسبب إنهاء دعم الطاقة تم استخدامها لخدمة الدين الذي صارت أسعار فوائده الآن أعلى مما مضى، ويعني هذا أن مصر تدفع للمستثمرين المزيد من المال من أجل نفس المقدار من الدين. إن إنهاء دعم الطاقة لم تقابله زيادة في دعم الغذاء ولا التحويلات النقدية،
وتدّعي الحكومة أن الإنفاق على التعليم والصحة يتصدر أولويات الانفاق العام، وفقًا للأرقام الرسمية فإن هذه المعلومات مغلوطة وفق الأرقام الرسمية.
حيث يتصدر مدفوعات أقساط الديون وفوائدها الإنفاق الحكومي العام في موازنة العام الجاري ( 2024 – 2025) إذ يبلغ 3.434 تريليون جنيه (1.834 تريليون فوائد ديون و1.6 تريليون أقساط) من إجمالي الاستخدامات البالغة 5.541 تريليون، في الموازنة العامة بنسبة 61.9% من الإنفاق.
وفي المركز الثاني، يأتي الإنفاق على الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية البالغ 636 مليار جنيه بنسبة 11.5%، والأجور وتعويضات العاملين البالغ 575 مليار جنيه في المركز الثالث بنسبة 10.4%، وشراء الأصول غير المالية البالغ 496 مليار جنيه في المركز الرابع بنسبة 8.9%.
وفي المركز الخامس الإنفاق على التعليم” البالغ 294.6 مليار جنيه بنسبة 5.3% من الاستخدامات، والإسكان والمرافق المجتمعية” البالغ 205.4 مليار جنيه في المركز السادس بنسبة 3.7%، والصحة”البالغ 200.1 مليار جنيه، في المركز السابع بنسبة 3.6% من الاستخدامات.
وبحساب نسب الإنفاق على قطاعي التعليم” و”الصحة من نسبة الناتج المحلي الاسمي المتوقع في العام المالي الجاري، نجد أنها لا تستوفي النسبة التي نصّ عليها الدستور المصري 4% للتعليم ما قبل الجامعي، و2% للتعليم الجامعي، 3% نفاق على الصحة، كما تراجعت مقارنًة بالعام المالي الماضي 2024/2023.
وتبلغ نسبة مخصصات “التعليم” 1.72% من الناتج المحلي الاسمي، المتوقع خلال العام المالي الجاري المُقدر بـ 17.1 تريليون جنيه، فيما تصل تبلغ نسبة الإنفاق على الصحة 1.17%.
كانت الحكومة قدّرت مخصصات قطاع التعليم (قبل الجامعي والعالي) في موازنة 2025/2024 بـ 294.6 مليار جنيه، فيما قدّرت الحكومة مخصصات الصحة في مشروع موازنة 2025/2024 بـ 200.1 مليار جنيه.
وتراجعت نسب الإنفاق على التعليم والصحة مقارنًة بالعام المالي الماضي 2024/2023 التي بلغت فيه 1.9%، و1.25%، بالترتيب.
أرقام متناقضة للدعم الحكومي وفقا لتصريحات رسمية
تتناقض التصريحات الرسمية لأرقام الدعم الحكومي للسلع الأساسية في الموازنة العام للدولة، فالسيسي أعلن أن الدولة تتحمل 130 مليار جنيهًا لدعم الخبز، بينما يقول مصطفى مدبولي، رئيس وزرائه أن الدولة تتحمل بين 100 و 110 مليار حنيهًا لدعم الخبز، بينما ما تنص عليه الموازنة وفق المعلن بأن دعم الخبز قدر بـ 98 مليار جنيه فقط لا غير.
وللتدليل على تدليس الحكومة في تصريحاتها حول زيادة الدعم نجد أنه منذ سنوات قليلة وفي أثناء جائحة كوفيد 19 كان الدعم الحكومي للأسعار يبلغ 80 مليار جنيهًا بما يوازي 5 مليارات دولارات وفق سعر الصرف في ذلك الوقت. وقد وصل إجمالي الدعم في الموازنة بعد جائحة كوفيد 19 إلى 127 مليار جنيهًا بما يوازي 2.7 مليار دولار وفقًا لسعر الصرف الحالي.