إن عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية تعتبر تطورًا نوعيًا كبيرًا في تكتيكات الصراع المشتعل في الشرق الأوسط بين دولة الاحتلال الإسرائيلي من جهة وحركة حماس ومحور المقاومة الإيراني من جهة أخرى، خاصةً أن الاستهداف تم في قلب العاصمة الإيرانية طهران وفي أعقاب مشاركة هنية في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان في 30 يوليو 2024، وهو ما يعد اختراقًا كبيرًا لإيران وانتهاكًا إسرائيليًا خطيرًا للسيادة والكرامة الوطنية الايرانية.
من الواضح جليًا أن اغتيال إسماعيل هنية وما سبقه من توتر في غالب جبهات الاشتباك يأتي ضمن إستراتيجية إسرائيلية للتصعيد باستغلال الغطاء الأمريكي؛ وذلك من خلال التدرج في تخطي الخطوط المسموح بها دوليًا وقانونيًا -كما في حادثة الاغتيال في العاصمة الإيرانية طهران-، ومن ثم جعلُ المبادرة بتوجيه الضربات الاستباقية حقَّ إسرائيل المطلق، مع إبقاء محور المقاومة في موقف رد الفعل.
التوقيت
جاء اغتيال اسماعيل هنية بالتزامن مع وصول الضغوط على نتنياهو إلى ذروتها من أجل إتمام صفقة تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار في غزة، فمع تصاعد الخلاف السياسي العسكري في الحكومة الإسرائيلية وخروج حالة الامتعاض في جيش الاحتلال إلى العلن والتعبير عنها بأكثر من شكل وفي أكثر من مناسبة؛ مع تزايد خسائره دون جدوى وفي غياب رؤية واضحة لعملياته أو خطة لما بعد تلك العمليات بعد تعثر الهدف الرئيسي غير المعلن بتهجير أهل قطاع غزة، ومع عدم قدرة نتنياهو على إطالة أمد الحرب باستحداث الشروط والتعويقات للصفقة، لجأ إلى اغتيال طرف التفاوض نفسه.
كما كان لافتًا للنظر حصول الاغتيال بعد أقل من ثمانية وأربعين ساعة من تصاعد النقاش حول مقترح ممثلين سياسيين أتراك توحَّد حوله الحاكم والمعارض في تركيا لدعوة إسماعيل هنية إلى إلقاء خطاب في مجلس الأمة التركي وما في ذلك من تصعيد للقضية الفلسطينية عالميًا، بل وبناء الزخم لقضية المقاومة للاحتلال، وخلق المضاد لخطاب نتنياهو بالكونجرس الأمريكي. عبر عن هذا التزامن لاحقًا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أحد تعليقاته.
زامن الاغتيال كذلك حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، وفي ذلك يتحقق لدولة الاحتلال ولنتنياهو تحديدًا عدة أهداف نذكرها في الخلاصة.
جاء الاغتيال كذلك بعد زيارة نتنياهو إلى واشنطن وخطابه أمام الكونجرس الأمريكي في 24 يوليو/تموز 2024 بعدما بدا للعالم أنه حصل على دعم مطلق من الجانب الأمريكي، مستغلًّا الواقع السياسي الأمريكي واحتدام التنافس الانتخابي والذي يضع مساندة إسرائيل الدائمة هي أهم أطروحات التنافس على الإطلاق بين الجمهوريين والديمقراطيين.
التغطية على نجاحات المقاومة ومحاولة خلق الردع
تأتي عملية اغتيال إسماعيل هنية كأحد عوامل التحول في استراتيجية الساسة الإسرائيليين في اتجاه التصعيد الشامل وحرمان المقاومة من صورة النصر؛ بدأت تلك الأحداث باستهداف سلاح الجو الإسرائيلي ميناء الحُديدة في اليمن في يوم 21 تموز/يوليو 2024 وذلك بعد استهداف الحوثيين تل أبيب بطائرة مسيرة بتاريخ 19 يوليو/تموز 2024، وفي يوم 28 يوليو/تموز 2024 انفجر صاروخ في مجدل شمس بمرتفعات الجولان المحتلة أدى إلى مقتل عدد من المدنيين من طائفة الدروز ممن لا يحملون الجنسية الإسرائيلية، واتهمت دولة الاحتلال حزب الله اللبناني في الحادث وتذرعت به لتبرير استهدافها للضاحية الجنوبية في بيروت واغتيال فؤاد شكر -كبير المستشارين العسكريين للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله-.
دافع نتنياهو إلى التصعيد
يُنظر إلى مصالح نتنياهو السياسية وإجراءات محاكمته في الداخل الإسرائيلي على ذمة قضايا فساد قد تعرضه للسجن حال تركه منصب رئاسة الوزراء على أنها الدافع وراء سعيه إلى التصعيد وإطالة أمد الحرب وتوسيعها ورفض إنهائها بالوضع الحالي أو تحقيق تقدم ملموس في هذا الاتجاه، ومع ما أكدته زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة من خضوع مراكز صناعة القرار في أمريكا لرغبات الكيان الإسرائيلي فإنه يُستبعد أن يقدِّم نتنياهو أي نجاح تفاوضي من شأنه أن يوقف الحرب.
الدعم العسكري الأمريكي المتزايد لإسرائيل بعد اغتيال هنية
استنفرت الولايات المتحدة الأمريكية قواتها في الشرق الاوسط لدعم اسرائيل منذ عملية الطائرة الحوثية واختراق العمق الاستراتيجي الإسرائيلي حتى قلب عاصمته تل أبيب، ومن ثم تم قصف ميناء الحديدة وتنفيذ عمليات الاغتيال التصعيدية النوعية لإسماعيل هنية وفؤاد شكر.
تُظهر الولايات المتحدة دعمها للعمليات الاسرائيلية من خلال نشر قطعها البحرية المتنوعة في بحار ومضائق الشرق الأوسط، ومن خلال تعزيز قواتها بالقواعد الامريكية المتواجدة على أراضي الدول الحليفة في المنطقة.
يأتي الدعم الأمريكي لجيش الاحتلال تحت شعارات تروجها مع حلفائها من أنظمة دول الطوق العربية أنه يجب ألا تنزلق المنطقة إلى حرب شاملة مدمرة.
وتسعى الولايات المتحدة -كما يتضح من تحركاتها الدبلوماسية- إلى أن يكون الرد على الضربات الإسرائيلية ضمن الأداء القتالي الاستعراضي والشكلي مع تكرار دائم لعنوان “قواعد الاشتباك” مع حفظ ماء الوجه لإيران وأذرعها.
نقرأ أن الجهود الأمريكية الحالية في الشرق الأوسط تعمل على محورين هما:
عدم السماح بهزيمة الكيان الإسرائيلي في غزة أو في مواجهة جبهات المقاومة الأخرى. وكذلك إبقاء رد إيران ومحورها على ضربات الكيان الإسرائيلي التصعيدية في أضيق الحدود دون خسائر سياسية أو عسكرية أو اجتماعية لدولة الاحتلال.
بحث رؤية محور المقاومة في الرد على اغتيال هنية في قلب طهران
إن الضربات العسكرية المؤثرة دائمًا هي التي تكون على الأهداف الاستراتيجية والحيوية للدول. ولذلك فبدون توجيه إيران وأذرع المقاومة ضرباتها لدولة الاحتلال ضد أهداف حيوية مثل خزانات النفط وحقول الغاز والمطارات وأنظمة الدفاع الجوي والأهداف الأمنية والعسكرية الهامة والبنية التحتية والموانيء، فلن يعتبر الرد قويًا أومكافئًا للضربات الإسرائيلية. وفي ذات الوقت تدرك إيران أن توجيه ضربات نوعية بهذا المستوى من التصعيد عالي السقف سيدفع الكيان الإسرائيلي وأمريكا وحلفاءهما إلى توجيه ضربات أقوى لإيران قد تنتهي بخسارتها لمساحات نفوذها التي توسعت في الشرق الأوسط، بل قد تكون ذريعة لدولة الكيان من أجل إشعال حرب شاملة، مستندةً في ذلك إلى دعم الولايات المتحدة والدول الغربية الحليفة.
لكن بالنظر إلى تاريخ مواجهات إيران -مع الوضع في الاعتبار أن عملية اغتيال هنية في قلب طهران غير مسبوقة تاريخيًا منذ وصول الثورة الإسلامية إلى الحكم في إيران- نجد أنه استراتيجيًا لا تميل إيران إلى إشعال المواجهات الشاملة بلا تقديرات مواقف عسكرية عقلانية، بل دائمًا ما تميل الى استراتيجية التمدد التدريجي وبناء أذرع المقاومة وتسليحها بالنفس الطويل، وذلك لتجنب زعزعة خارطة نفوذها التي بنتها عبر عقود في الشرق الأوسط عمومًا وفي لبنان خاصة، فتقويض نفوذ حزب الله في لبنان مثلًا لا يمكن تعويضه من الناحية الاستراتيجية.
الخلاصة
- تكسر عملية الاغتيال في قلب طهران قواعد الاشتباك التي استقرت بين إيران ودولة الاحتلال بعد الرد الإيراني بقصف الكيان الإسرائيلي مباشرةً في ردها على قصف قنصليتها في سوريا.
- عملية الاغتيال تعد واحدة في سلسلة ضربات إسرائيلية استباقية ونوعية وتصعيدية على جميع جبهات القتال المشتعلة ضدها في غزة وجنوب لبنان واليمن وإيران وسوريا والعراق تهدف إلى استعادة بعض ركائز العقيدة العسكرية الإسرائيلية المنهارة بفعل عملية طوفان الأقصى كالردع والتصعيد المهيمن والضربات الوقائية.
- على الرغم من كل المؤشرات التي تدل على عدم رغبة إيران أو الولايات المتحدة أو الفاعلين الإقليميين في توسيع الصراع، وعلى الرغم من فداحة الثمن المتوقع أن تدفعه دولة الاحتلال والقوات الأمريكية -المنكشفة دفاعيًا- في المنطقة حال توسع الحرب، إلا أن نتنياهو والطبقة السياسية الإسرائيلية ماضية في مخالفة كل ذلك ويدفعون بشكل محموم إلى إطالة أمد الحرب وتوسيعها، وتتضح إرادة نتنياهو جر الولايات المتحدة إلى ضرب إيران، في محاولة لتغيير معادلة النصر والهزيمة ونقل المعركة إلى حيث يمكنه أن يحقق نصرًا يقدمه للداخل الإسرائيلي يغطي على هزيمته العسكرية في غزة، وللهروب من استحقاقات تلك الهزيمة من حيث تحرير الرهائن وما يستوجبه ذلك من دفع أثمان باهظة ووقف للحرب دون أن يحقق أيا من اهدافه المعلنة منها. كما أن حربه على إيران تخدمه في مواجهة هزيمته على صعيد الرأي العام العالمي من أجل لفت الأنظار عن جرائم الاحتلال في حربه المسعورة على قطاع غزة، وتحويل العنوان الرئيسي للعدوان الإسرائيلي من الإبادة الجماعية إلى مواجهة النووي الإيراني.
- يأتي تزايد الحشود العسكرية الأمريكية في المنطقة خاصة بعد عملية اغتيال هنية بشكل أساسي من أجل رفع مستوى التنسيق الأمني والعسكري واللوجستي بين دولة الاحتلال والولايات المتحدة كما هو معلن. أما عمليًا فهو يمنح دولة الاحتلال نصرًا استعراضيًا بعد أن وجهت ضربات لكامل محور المقاومة واغتالت شخصيات قيادية بارزة ووازنة فيه.
- كما يعد الحشد العسكري الأمريكي في المنطقة تجميدًا بشكل غير مباشرٍ للانسحاب الأمريكي من سوريا والعراق -ذلك الانسحاب الذي تطالب به إيران وتضغط في سبيل تحقيقه-، كما يأتي الحشد الأمريكي لردع الميليشيات الإيرانية في سوريا والعراق ولبنان واليمن حتى لا تتدخل في مواجهة شاملة في المنطقة، وذلك من خلال التلويح بتدخل الولايات المتحدة إلى جوار دولة الاحتلال وإلحاق الهزيمة بمحور المقاومة في حال انزلق التوتر نحو الحرب، وهو ما يعيه المحور تمامًا، ويتصرف بناءً عليه، ويجبره على التفكير بطريقة الحرب الغير متماثلة أو العمليات الانتقامية المحدودة تحاشياً لمواجهة شاملة مع الولايات المتحدة ذاتها، حتى وإن ظهرت دولة الاحتلال كرأس حربة في مقدمة الصراع على مسرح العمليات الشرق أوسطي.
- يتحقق -على الهامش- للكيان الإسرائيلي من اغتيال هنية قطعُ الطريق أمام الحكومة الايرانية الجديدة إلى تحسين علاقاتها الخارجية مع الغرب أو الدخول معه في مفاوضات تؤدي إلى تخفيف العقوبات، بخلق عداوة من اليوم الأول لقتل أي محاولات فتح صفحة جديدة مع إيران تشبه الاتفاق النووي مثلا.