تقدير موقف

يشهد السودان منذ أبريل 2023 صراعًا مسلحًا بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، مما أدى إلى تداعيات إنسانية وسياسية خطيرة.
فيما يلي تقدير للموقف الحالي وآفاق الحسم العسكري
التطورات الميدانية الأخيرة
تقدم الجيش السوداني في الخرطوم:
نجح الجيش في فك الحصار عن القيادة العامة واستعادة مواقع استراتيجية في العاصمة، مما عزز موقفه العسكري.
حيث نجح في فك الحصار المفروض على مقر قيادته العامة في الخرطوم، وكذلك عن مقر سلاح الإشارة، بعد ما يقارب العامين منذ اندلاع الصراع المسلح في 15 أبريل/ نيسان 2023
واقترب الجيش من بسط سيطرته على العاصمة السودانية المكونة من ثلاثة مدن رئيسة يفصلها نهر النيل (الخرطوم، بحري، أم درمان)، وكانت ميدانًا للصراع العسكري منذ الوهلة الأولى، ما تسبب في تشريد معظم سكان في العاصمة ويقدرون بحوالي ربع سكان البلاد البالغ 45 مليون نسمة (١)
وللمرة الأولى منذ اندلاع الصراع، استطاعت فرق الجيش السوداني، القادمة من شمال بحري وأم درمان، الالتحام مع عناصرها في سلاح الإشارة والقيادة العامة، وإجبار عناصر الدعم السريع على التراجع إلى منطقة شرق النيل (شرقي العاصمة) التي تعد مركز الثقل الرئيس للدعم السريع بالخرطوم مع وجود لا يستهان به كذلك في مناطق جنوبيّ الخرطوم (٢)
استعادة الجيش معظم مناطق في ولاية الجزيرة:
تقدم الجيش بقوة في ولاية الجزيرة التي سقطت في يد دعم السريع بشكل دراماتيكي، ودون مواجهات عسكرية في ديسمبر/ كانون الأول 2023
وتمكن الجيش من استعادة حاضرة الولاية (ود مدني)، جنوبي العاصمة، وكذلك معظم مدن جنوبيِّ شرق الولاية، وسط تقدم يشوبه البطء تجاه المناطق الشمالية التي انسحبت إليها قوات المليشيا الساعية لتعويض خساراتها
ثم تقدمت قوات الجيش واستطاع فرض سيطرته على كل مدن ولاية الجزيرة ما عدا مدينة جياد شمالي الولاية والواقعة على بعد 50 كيلو متر من الخرطوم (٣)
وقد تمكن الجيش خلال المعارك من استهداف المركبة الخاصة بقائد قوات الدعم السريع بولاية الجزيرة اللواء عبد الله حسين، إثر غارة جوية بالتزامن مع مواجهات عنيفة بين قواته والجيش في مدينة الكاملين شمالي ولاية الجزيرة
ثم تبين بعد ذلك ان الجنرال عبد الله حسين قتل برفقة عدد من أعوانه إثر هذا الاستهداف بطائرة مسيرة (٤)
تراجع قوات الدعم السريع:
واجهت قوات الدعم السريع انتكاسات ميدانية متتالية منذ اكتوبر 2023 حيث انشق أحد أبرز قادتها في ولاية الجزيرة اللواء أبوعاقلة كيكل، وانضم إلى صفوف الجيش السوداني، ويعد هذا الانشقاق الأول من نوعه لشخصية كبيرة في قوات الدعم السريع وعلى هذه المستوى من حيث الرتبة والمنصب القيادي والرمزية. (٥)
انشقاق كيكل يعتبر ضربة عسكرية ومعنوية لقوات الدعم السريع، واعطي دفعة معنوية وعسكرية للجيش خلال عملياته بولاية الجزيرة وساهم في تقدمها للسيطرة على معظم الولاية، حيث انه يملك معلومات عن قوات الدعم السريع ونقاط ضعفها وقوتها، كما أن قواته تنتشر من شرق النيل في شرق ولاية الخرطوم حتى منطقة شرق الجزيرة التي تنفتح على ولاية القضارف وكسلا في شرق السودان.
ومما لا شك فيه يعد الأمر اختراقًا استخباريًا كبيرًا لقوات الدعم السريع، التي فوجئت بقائد قواتها في ولاية الجزيرة ينضم إلى الجيش الذي يقاتلها، وكذلك خسرت قوات الدعم السريع من حيث أن هذه الخطوة جردتها من الصبغة القومية بتمثيل وسط السودان، كما أن أكثر من 60% من قواتها بولاية الجزيرة هم من أبناء المنطقة ذاتها وهو ما يفسر الخسائر المتتالية في الولاية.(٦)
كذلك تعرّضت قوات الدعم السريع في السودان لضربات موجعة، خلال الأسابيع الأخيرة، طالت عددا من قادتها الميدانيين الذين كانوا رأس الحربة منذ بدء المعارك ضد الجيش السوداني.
حيث تمكن الجيش مؤخراً من تحييد أكثر من 6 قادة بالدعم السريع أبرزهم: مهدي رحمة الشهير بـ “جلحة”، واللواء عبد الله حسين، والعميد الطاهر جاه الله، والقائد الميداني سليم الرشيدي، والقائد الميداني عبد الرحمن قرن شطة.
وسبقهم عدد من القادة الميدانين الذين تعرضوا للقتل منهم: المقدم عبد الرحمن البيشي أبرز القادة المؤثرين داخل الدعم السريع، وعلي يعقوب الذي أوكل إليه مهمة السيطرة على الفاشر، وكذلك اللواء عيسى الضيف.
وكان مقتل هؤلاء القادة بطريقة متسارعة، أعقبه اتهامات واسعة انتشرت تشير إلى أن عمليات القتل ربما تمت بواسطة أياد داخل قوات الدعم السريع ذاته.
فمن الواضح ان مقتل عدد من قادة الدعم السريع ناتج عن عمل استخباراتي دقيق للجيش عبر توفر معلومات عن تحركات القادة الميدانين ثم يتم استهدافهم بواسطة المسيّرات الحديثة .
بالإضافة الى ما يتردد أن الدعم السريع يعاني من خلافات داخلية وصلت قمة هرمه حيث توجد خلافات بين حميدتي وشقيقه “القوني” من جهة، والأخ غير الشقيق عبد الرحيم دقلو من جهة أخرى. (٧)
مقتل هذا العدد من قادة الدعم السريع الميدانيين وهذه الاختراقات في صفوفه والخلافات المتصاعدة كلها عوامل ساعدت على تقدم الجيش السوداني وتصب في صالحه مستقبلًا.
العوامل المؤثرة في مسار الصراع
التفوق العسكري للجيش:
يمتلك الجيش السوداني تفوقًا في العتاد والتنظيم مقارنةً بقوات الدعم السريع، مما يمنحه ميزة نسبية في العمليات العسكرية.
الجيش السوداني حصل تدريجيًا على أسلحة طيران نوعية وكذلك تسلّم شحنة من السيارات المصفحة ضد القنص، والتي دخلت المعارك في الخرطوم بعد انطلاق العملية البرية نهاية سبتمبر/أيلول الماضي.
حيث تسلم الجيش السوداني لأول مرة دفعة محدودة من طائرات “بيرقدار” التركية، ويعتقد أن دخولها الخدمة تم في غضون شهر نوفمبر 2024
ويعتبر هذه المرة الأولى التي يستخدم فيها الجيش طائرات “بيرقدار”، ولكن نشاطها يقتصر حاليًا على ولاية الخرطوم فقط. (٨)
لكن قبل دخول البيرقدار الخدمة في الجيش السوداني سبقها طرازين على الأقل زودت بهما ايران الجيش ويعتقد ان ذلك تم في أوائل عام 2024 وهما مهاجر 6 وابابيل 3 وهذا يعد من اهم العوامل التي احدثت الفارق النوعي في تقدم الجيش خلال العمليات خاصة استخدامه للمسيرة الهجومية بيرقدار التركية. (٩)
الدعم الشعبي والقبلي:
قد يؤدي تقدم الجيش إلى زيادة الدعم من القبائل وتكتلاتها ورموزها السياسية، مما يضعف موقف قوات الدعم السريع.
كثيرًا من القبائل راجعت مواقفها بناء على التطورات العسكرية، خاصة بعدما حقق الجيش تقدمًا واضحًا، وتراجعت قوات الدعم السريع، والانتهاكات التي ارتكبتها والخسائر الكبيرة في صفوفها، وباتت القبائل تخشى من ارتدادات وتداعيات ما بعد الحرب.
لذلك الحاضنة القبلية والاجتماعية للدعم السريع انقسمت عليه، وتزحزحت مواقف زعماء قبائل كانوا أقرب إلى “حميدتي”، وآخرين كانوا في الحياد، الأمر الذي سيرمي بظلاله على الأوضاع العسكرية والروح المعنوية، التي تمثل قوة وإرادة القتال لأي طرف في الحرب. (١٠)
فعلى سبيل المثال فإنه منذ تغير موقف موسى هلال في اقليم دارفور، تحقق مكاسب عدة للجيش، ومنحه مساحة شاسعة من الأرض التي تنفتح فيها قوات “مجلس الصحوة”، في موقع جغرافي يمثل الحاضنة المكانية والاجتماعية للدعم السريع وذلك دون قتال، ومنح الجيش أرضا وقاعدة للعمليات في قلب دارفور وتأمين الدعم اللوجيستي والبشري له، مما جعل من تخطيط “حميدتي” للسيطرة على ما تبقى من الإقليم أمرًا صعبًا (١١)
السيناريوهات المحتملة للحسم العسكري
بعد مضي حوالي 22 شهرًا على اندلاع الحرب بين الجيش السوداني والدعم السريع، لأول مرة تبدو تقديرات المرحلة القادمة أكثر وضوحًا، مع انحسار نفوذ الدعم السريع في عدة مناطق، وتزايد التلاحم الشعبي ضده.
لكن هل نحن أمام حسم عسكري كامل لصالح الجيش السوداني؟ أم هناك عدة سيناريوهات أخرى للمشهد المستقبلي للسودان.
الحسم عسكري لصالح الجيش
لا شك أن الجيش السوداني، رغم العقبات والتحديات، قد حقق تقدمًا واضحًا في استعادة السيطرة على العديد من المناطق، لكن الحسم الكامل يحتاج إلى إزالة آخر معاقل الدعم السريع خاصة في دارفور وأجزاء من الخرطوم.
عوامل ترجح الحسم العسكري
– تم اضعاف الدعم السريع لوجستياً وبشرياً وذلك بفقدانهم جزء كبير من خطوط الإمداد القادمة من الخارج وكذلك خسارة مجموعة كبير من القادة الكبار والميدانيين سواء بالتحييد او بالانشقاق والانضمام للجيش السوداني.
– انكشاف انتهاكات الدعم السريع ضد الانسانية وتصاعد الإدانات الدولية لهم، مما قلل من مساحة المناورة الدبلوماسية التي كانت تستغلها الدول والتنظيمات الداعمة لهم.
– تزايد التلاحم الشعبي حول الجيش السوداني خاصة مع الانتصارات الاخيرة، فبرغم كل محاولات الحرب النفسية وشرا ء الولاءات القبلية، ظل الدعم الشعبي متماسكا وداعما للجيش.
– حصول الجيش على اسلحة جوية نوعية كالمسيرات الهجومية من إيران وتركيا.
التحديات أمام الحسم العسكري
– استمرار تدفق المرتزقة للدعم السريع، وعدم توقف الإمداد بالسلاح من جانب الامارات وادخاله للسودان عن طريق أذرعها المتعاونة والمتواجدة في دول لها حدود مع السودان سواء في ليبيا او تشاد وغيرها مما يؤدي الى إطالة أمد الصراع.
– هزيمة الدعم السريع في الخرطوم ووسط السودان، سوف تجعل من تبقى من عناصرها يعودون نحو حواضنهم الاجتماعية، خاصة في دارفور، ما قد يؤدي إلى موجة جديدة من العنف والاقتتال قي الاقليم بعيدا عن القوة المركزية للجيش نظرا لاتساع مساحة مسرح العمليات، ومن ثم سيطرة الدعم السريع على الفاشر والعمل مستقبلا نحو انفصال دارفور.
– التحركات الدبلوماسية التي تسعى إلى فرض تسوية هدنة انسانية قريبة وايقاف إطلاق النار خلال شهر رمضان قد يمنح الدعم السريع فرصة لإعادة ترتيب صفوفه وحصوله على مزيد من الاسلحة مما يطيل أمد الحرب.
ثانيًا: سيناريو التسوية السياسية
بعض الأطراف الإقليمية والدولية قد تدفع نحو مفاوضات جديدة، تحت فرضية أن الحل العسكري مستحيل. لكن هل هذه المفاوضات تخدم السودان أم أنها ستكون في اتجاه انقاذ الدعم السريع؟
– التسوية السياسية تطرح بعض التوجهات فيها اندماج الدعم السريع في الجيش، التوجه هذا لا يتعدى كونه نظريا وهو عمليا ومن الناحية العسكرية لا يمكن أن يكون صالحا للتطبيق، وسيظل قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة.
– فترات محاولات التسويات السياسية قد تعمل على إعادة إنتاج الأزمة من خلال تحالفات جديدة تستهدف إضعاف موقف الجيش السوداني.
– تحويل السودان إلى ساحة لصراعات النفوذ الدولية، حيث تفرض الدول الكبرى والاقليمية أجنداتها عبر الوكلاء محليين.
ثالثًا: السيناريو الأكثر خطورة – تقسيم السودان
إذا لم يتم حسم الحرب على المدى القريب، فقد نشهد سيناريو مشابها لما حدث في بعض الدول المجاورة للسودان مثل ليبيا، حيث تستمر الحروب بالوكالة، ويتم استنزاف موارد الدولة دون سيطرة كاملة لاحد الاطراف، مما يفتح الباب أمام سيناريو التقسيم
وهناك مؤشرات قد تقود لهذا السيناريو منها استمرار الامداد الخارجي لقوات الدعم السرع وعدم ايقافه تماما بهدف تحويل الحرب إلى صراع طويل الأمد.
كذلك إطالة أمد المعارك في دارفور حتى سيطرة الدعم السريع عليه بالكامل، حيث تسعى بعض القوى لجعل اقليم دارفور منطقة خارج قدرة سيطرة الجيش.
التوصيات
– يجب الضغط بواسطة المنظمات الأممية نحو توفير المساعدات الانسانية بشكل مستمر حيث أفاد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة (أوتشا) في بيان صحفي اليوم 10 فبراير 2024 “ان العوائق مستمرة أمام العمليات الإنسانية في السودان، وخاصة في منطقة دارفور، حيث يتفاقم انعدام الأمن الغذائي والمعاناة الانسانية على نطاق واسع.
الأزمة الإنسانية تتطلب وصولًا عاجلًا ودون عوائق للمساعدات، إلا أن القيود المستمرة والعقبات البيروقراطية التي تفرضها الوكالة السودانية للإغاثة والعمليات العسكرية التابعة لقوات الدعم السريع، تمنع المساعدات الإنسانية اللازمة لإستمرار الحياة من الوصول إلى المحتاجين إليها بشدة. (١٢)
– على المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية المعنية التوسع نحو مراقبة الانتهاكات وجرائم الحرب ضد الانسانية وتوثيقها وضمان محاسبة المسؤولين عنها واعلان ذلك مما يحد من انتشار هذه الجرائم خلال الحرب.
– العمل على زيادة الضغط الدولي والإقليمي نحو موقف جاد وحازم لإيقاف سلاسل امداد السلاح لقوات الدعم السريع.
الخاتمة:
إن نتائج الحرب في هذه المرحلة تخطت الإجابة على سؤال من يسيطر على السلطة في السودان فقط، بل الأهم من ذلك وهو قدرة السودان على حماية سيادته ووحدته وإفشال المشاريع الخارجية لتقسيمه.
أمل الشعب السوداني هو الحسم العسكري لصالح الجيش فهو الحل الذي يحافظ على وحدة السودان وللحد من الخسائر البشرية والاقتصادية، أما دون ذلك من السيناريوهات الأخرى، فهي ليست سوى مناورات وسبل خداع تهدف لإبقاء السودان في حالة الفوضى وتحت خطر التقسيم.