دراسة أكاديمية
للباحثة: وصال عمر
“ملخّص الدّراسة”
تشكل إشكالية الاستعصاء الديمقراطي وعلاقتها بالقضية الفلسطينية مسألة محورية ومهمة في الوطن العربي، سواء في سياق إيجاد الحلول لإنهاء الاحتلال الصهيوني على أرض فلسطين وتحقيق الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، أو في سياق القدرة على إنجاح التحول الديمقراطي، وبرز هذا بشكل أوضح مع التراكمات التاريخية حيث نرى كيف تغيرت العلاقات العربية الإسرائيلية بالتدريج من حالة الصراع الى ما يسمى بالسلم أو التطبيع. وخاصة مع رياح الربيع العربي فرغم أنه نجح في إسقاط وإنهاء حكم الأنظمة الدكتاتورية في بعض الدول، إلا أنه فشل في مرحلة بناء النظام الديمقراطي وترسيخه نتيجة لعدة عوامل ومعوقات يعتبر الكيان الصهيوني أهمها وأجسمها، وبعض الدول دخلت في صراعات داخلية بدعم من الدول الكبرى للأنظمة الاستبدادية ضد مطالب الشعوب خدمة لمصالحها في المنطقة، حيث تحظى منطقة الشرق الأوسط بأهمية استراتيجية وجيوسياسية وجيو اقتصادية كبيرة، والتحقت بركب الاستبداد مجددا الدول التي نجحت في إسقاط النظام في البداية مع هيمنة المؤسسة الأمنية والعسكرية وعودة قيام أنظمة استبدادية، فأصبح الوطن العربي يعاني من تناقض بين المواقف الشعبية ومواقف الأنظمة تجاه القضية الفلسطينية، ما برز بشكل واضح مع عملية طوفان الأقصى بالإضافة لتبيان التحركات الرديئة للأنظمة العربية تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة وموقفها من المقاومة الفلسطينية.
دراسة هذا الموضوع تعتبر محاولة علمية لدراسة طبيعة التأثير المتبادل بين إشكالية الاستعصاء الديمقراطي في الوطن العربي والقضية الفلسطينية، والدور الكبير الذي يلعبه المشروع الصهيوني مدعوما من الدّول الكبرى في ذلك هذا من جهة، وفهم طبيعة الدّور المهم الذي تحظى به دول الطوق نظرا لأهميتها الجيواستراتيجية وتأثير المتغيرات الإقليمية على مر التاريخ منذ سنة 1948 من جهة أخرى، ما يوضح لنا أهمية المكانة التي تحظى بها القضية الفلسطينية في كلّ المراحل التي شهدها الوطن العربي وانعكست عليه داخليا وعلى مكانة الدّول العربية إقليميا ودوليا، مع التركيز على الفترة ما بعد 2011 أي ما بعد ثورات الربيع العربي وتحقق فشلها وعودة ظهور معالم الاستبداد في الوطن العربي، وعليه يمكن طرح الإشكالية التالية:
هل يمكن تصور بقاء الاحتلال الإسرائيلي كدولة قائمة في الشرق الأوسط إن كانت الدول العربية ديمقراطية؟
الديمقراطية والاستعصاء الديمقراطي في الوطن العربي
منذ ظهور الديمقراطية في العصور القديمة في اليونان برزت أهميتها كنظام سياسي مرّ بعدة مراحل ساهمت في تطويره الى حين ظهور الديمقراطية الليبرالية، أي بالتصور الغربي القائمة عليه اليوم، ويحكم الديمقراطية مجموعة من النظريات التي ساهمت في تشكيلها وضبطها حسب المطلوب في كل مرحلة، وتشهد المنطقة العربية تحولات سياسية تجعل مناقشة موضوع الديمقراطية أمرا حيوياً في السّياق العربي، وباعتبار الخصوصية الثقافية والفكرية والتاريخية للمنطقة.
ويثير الحديث عن الديمقراطية تساؤلات حول جدوى تحقيقها في ظلّ غياب الشروط الأساسية لتطبيقها. وكثرة العوامل المعيقة للمسار الديمقراطي في الدول العربية كالكيان الصهيوني والثروة النفطية وتعدد الطوائف، وفي العالم الإسلامي العربي بشكل خاص تظهر تحديات تتعلق بتوافق مفاهيم الديمقراطية مع القيم والمبادئ الإسلامية (الشورى)، فمع وجود تفاوت في فهمها يتباين تطبيقها بناءً على السياق الثقافي والسياسي لكل دولة مما يجعل مناقشة هذا الجانب أمراً معقداً إلى حد ما.
للإحاطة بهذا الموضوع يتطرق الفصل الى الإطار النظري والمفاهيمي للديمقراطية واستعصاء تطبيقها في الوطن العربي وذلك عن طريق الحديث عن: الإطار المفاهيمي للديمقراطية، الديمقراطية من نظريات التحديث الى مقاربات الانتقال، الاستعصاء الديمقراطي في الوطن العربي.
عند الحديث عن حدود تطبيق الديمقراطية في السياق العربي، فإنها مازالت تواجه تحديات كبيرة، مما يجعل مناقشة هذا الموضوع أمرًا حيويًا. فالمنطقة العربية تتميز بخصوصيات ثقافية وفكرية وتاريخية تجعل من تحقيق الديمقراطية أمرًا معقدًا، خاصة في ظل غياب الشروط الأساسية لتطبيقها.
الديمقراطية، التي تعني حكم الشعب، تطورت عبر القرون لتصبح نظامًا سياسيًا يعتمد على مبادئ الحرية والمساواة والمشاركة السياسية. ومع ذلك، فإن تطبيق هذه المبادئ في الوطن العربي لازال يواجه عقبات كبيرة، ما يجب ذكره منها هو الصراعات الطائفية، والثروة النفطية، والتحديات المتعلقة بتوافق مفاهيم الديمقراطية مع القيم والمبادئ الإسلامية، مثل مبدأ الشورى.
في الفصل الأول من هذه الدّراسة، تم استعراض الإطار النظري والمفاهيمي للديمقراطية، مع التركيز على التطور التاريخي لهذه الفكرة منذ نشأتها في اليونان وحتى ظهور الديمقراطية الليبرالية في الغرب. كما تمت مناقشة التلاقي بين الديمقراطية والليبرالية، والذي جاء بعد حربين عالميتين أظهرتا الحاجة إلى نظام سياسي يحترم الحريات الفردية وحقوق الأقليات.
وفي السياق العربي، بدأ التعبير عن مطلب الديمقراطية منذ الحركات الاستقلالية العربية، حيث طالبت هذه الحركات بإقامة دول وطنية مستقلة عن الاستعمار ودعت إلى الحكم الدستوري الديمقراطي. ومع ذلك، فإن التجربة العربية في تحقيق الديمقراطية كانت محدودة، حيث فشلت معظم المحاولات في إرساء نظام ديمقراطي مستقر.
ومن بين العوامل التي تعيق تحقيق الديمقراطية في الوطن العربي: الاستبداد السياسي، والصراع العربي الصهيوني، والثروة النفطية، والمشروع الطائفي التقسيمي، والإرث الاستعماري، وبروز ظاهرة الإسلام السياسي. هذه العوامل مجتمعة هي من تساهم في إعاقة عملية التحول الديمقراطي في المنطقة، كل في إطار سياق وحيثيات معينة حسب خصوصيات كل دولة.
علاوة على ذلك، فإن الأنظمة العربية غالبًا ما تلجأ إلى تأجيل الديمقراطية بحجج مختلفة، مثل عدم النضج السياسي، وحماية الوحدة الوطنية، والتنمية الاقتصادية، والصراع العربي الصهيوني، والخصوصية العربية. حيث تستخدم النخب الحاكمة هذه الذرائع لتبرير استمرارها في السلطة وتجنب إجراء إصلاحات ديمقراطية حقيقية.
كفكرة شاملة، فإن الديمقراطية في الوطن العربي تواجه تحديات كبيرة، سواء كانت داخلية أو خارجية. رغم ذلك، تبقى الاضطرابات التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة، مثل ثورات الربيع العربي، تعبر عن نقلة نوعية في علاقة المجتمع بالسلطة. هذه التغيرات شكلت نوعا ما بداية لمسار جديد، رغم الصعوبات والعقبات التي لا تزال قائمة.
القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي: تاريخ متشابك وتداعيات مستمرة
تعتبر القضية الفلسطينية أحد أهم القضايا المركزية في المنطقة العربية، حيث تأثرت مسارات هذه القضية بالأحداث التاريخية والسياسية في المنطقة.
بدأت مع وعد بلفور البريطاني بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ما أدى إلى نشوب صراع بين العرب واليهود الصهاينة في فلسطين وتطورت جبهة الصراع لتشمل الدول العربية، فشهدت المنطقة على مدار السنوات صراعا عربيا إسرائيليا محتدمًا، الى حين الجلوس على طاولة المفاوضات وعقد اتفاق أوسلو للسلام العربي الإسرائيلي بين مصر والكيان الصهيوني سنة 1993، فكان نقطة تحول مهمة، أدت لعواقب وخيمة على القضية الفلسطينية كتفاقم الانقسام السياسي وانتهاكات السلطة الفلسطينية لحقوق الإنسان، ودخول الأنظمة العربية حيز الخنوع بالتطبيع.
ويرتبط بوجود الكيان الصهيوني المحتل في المنطقة العربية كل ما يتعلق بإعاقة النهضة وتحقيق الديمقراطية واستمرار الأنظمة الشمولية. ما ينعكس بالسلب كذلك على الاستقرار السياسي والأمني في النظام الإقليمي العربي.
فنحاول في هذا الفصل دراسة هذه العلاقات، والسيرورة التاريخية التي أدت لقيام الكيان الصهيوني، وما مرت به القضية الفلسطينية والمنطقة العربية في هذا السياق، فتم طرح ثلاثة عناصر أساسية: الحركة الصهيونية والكيان الإسرائيلي، القضية الفلسطينية ومسار المقاومة، طبيعة العلاقات العربية الإسرائيلية وأثرها على النظام الإقليمي العربي.
تشكلت مسارات القضية الفلسطينية عبر أحداث تاريخية وسياسية معقدة. بدأت جذورها مع وعد بلفور عام 1917، الذي أعلن دعم بريطانيا لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، والذي كان بمثابة الشرارة الأولى للصراع بين العرب واليهود الصهاينة، وتطور لاحقًا ليشمل دولًا عربية عدة، ليصبح صراعًا عربيًا إسرائيليًا محتدمًا استمر لعقود. وبذكر الحركة الصهيونية، فقد تأسست في نهاية القرن التاسع عشر بقيادة ثيودور هرتزل، وكانت تهدف إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين، مستندة إلى فكرة “أرض الميعاد”. ومع مرور الوقت، تمكنت الحركة الصهيونية من كسب دعم دولي، خاصة من بريطانيا، التي أصدرت وعد بلفور لاحقًا. هذا الدعم الدولي كان بمثابة نقطة تحول في مسار الصراع، حيث بدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين تتزايد، مما أدى إلى تغيير ديموغرافي كبير في المنطقة.
بعد الحرب العالمية الأولى، وتحت الانتداب البريطاني، تم تسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، مما أدى إلى زيادة التوترات بين السكان العرب واليهود. وفي عام 1947، أصدرت الأمم المتحدة قرارًا بتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية. رفض العرب هذا القرار، بينما قبلته الحركة الصهيونية، مما أدى إلى اندلاع الحرب عام 1948، والتي انتهت بإعلان قيام دولة إسرائيل واحتلالها لأكثر من 77% من أراضي فلسطين التاريخية.
منذ ذلك الحين، أصبحت القضية الفلسطينية قضية مركزية في الصراع العربي الإسرائيلي. وشهدت المنطقة حروبًا متعددة، منها حرب 1967 التي احتلت فيها إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان وسيناء، وحرب أكتوبر 1973 التي حاولت فيها مصر وسوريا استعادة الأراضي المحتلة. ومع مرور الوقت، بدأت بعض الدول العربية، مثل مصر والأردن، في التوقيع على اتفاقيات سلام (تطبيع) مع إسرائيل، مما أدى إلى تغيير في طبيعة الصراع.
المقاومة الفلسطينية، التي بدأت في أوائل القرن العشرين، تطورت عبر العقود لتصبح حركة وطنية. حيث تأسست منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964، وأصبحت الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني. ومع اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987، برزت حركات مقاومة جديدة مثل حركة حماس والجهاد الإسلامي، التي تبنت الكفاح المسلح كوسيلة لتحرير فلسطين.
في عام 1993، تم توقيع اتفاقيات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، والتي نصت على إنشاء سلطة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. ومع ذلك، فقد فشلت تلك الاتفاقيات في تحقيق السلام الدائم، حيث استمرت إسرائيل في توسيع المستوطنات، مما أدى إلى تفاقم في الأوضاع.
وفي السنوات الأخيرة، شهدت المنطقة موجة جديدة من التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، بدءًا من اتفاقيات أبراهام عام 2020 بين الإمارات والبحرين وإسرائيل. هذه الاتفاقيات، التي تمت بدعم أمريكي، أثارت جدلاً واسعًا في العالم العربي، حيث رأى الكثيرون أنها تتناقض مع المبادئ العربية الراسخة في دعم القضية الفلسطينية.
إسرائيل، منذ قيامها، سعت إلى تحقيق أهداف قومية تتركز حول ضمان بقائها كدولة يهودية في المنطقة، مع الحفاظ على تفوقها العسكري والاقتصادي. كما عملت على تعزيز علاقاتها مع الدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة، التي قدمت لها دعمًا سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا كبيرًا. ومن ناحية أخرى، كان للصراع العربي الإسرائيلي تأثير كبير على الاستقرار السياسي والأمني في المنطقة. حيث أدى وجود الكيان الصهيوني إلى تفاقم التوترات واندلاع حروب متعددة، كما ساهمت في إضعاف الأنظمة العربية من خلال دعم الحركات الانفصالية وإثارة النزاعات الداخلية.
لا تزال القضية الفلسطينية قضية مركزية في الشرق الأوسط، تشكل محورًا للصراع العربي الإسرائيلي. على الرغم من المحاولات العديدة لحل الصراع، ولا تزال الأوضاع تتسم بالتوتر وعدم الاستقرار وضعف وانبطاح الدول العربية، خاصة مع استمرار الكيان الصهيوني في سياساته التوسعية، وفي المقابل استمرار المقاومة الفلسطينية في نضالها من أجل التحرير.
الاستعصاء الديمقراطي في دول الطوق وعلاقته بالقضية الفلسطينية
عبر مر التاريخ وحتى يومنا هذا يعتبر الشرق الأوسط واحداً من أكثر المناطق تأثيراً وتعقيداً في العالم، حيث يحظى بموقع استراتيجي مهم فيتحكم في ممرات التجارة والعبور وتتمتع المنطقة بموارد طبيعية كبيرة مثل النفط والغاز، وتنتشر عبر هذه المنطقة ثقافات متنوعة وتاريخ غني بالأحداث والتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فتتصارع فيها التيارات الفكرية والسياسية، وكل ما سبق يجعلها تحتل مكانة بارزة في خريطة العالم الجيوسياسية.
وهو ما جعلها محط استهداف الدول الكبرى حيث تتقاطع مصالحها فيها فتحاول الحفاظ على بقاء الأنظمة السلطوية في الحكم لخدمة أهدافها، ومن بينها استمرارية بقاء الكيان الصهيوني وتقويته، والذي يلعب دورا كبيرا هو الآخر في عرقلة نجاح مسار الديمقراطية في الوطن العربي ككل والشرق الأوسط كنظام إقليمي فرعي، وبشكل خاص كل من دولة مصر وسوريا، لبنان والأردن، لما لها من قدرة على خدمة ودعم القضية الفلسطينية في مسار التحرر لو يتحقق وجود أنظمة عربية تتوافق رؤيتها مع رؤية شعوبها (علاقة تأثير وتأثر).
هذا الواقع الذي أصبح يمر للأسوأ مع تصاعد حدة حالة الاستعصاء الديمقراطي بعد موجة الربيع العربي 2011 إلى حين ظن الكيان أنه اقترب من حسم المعادلة وتصفية القضية الفلسطينية من على الساحة الدولية، بالتوازي مع تقدم عملية التطبيع وارتفاع الانتهاكات ضد الفلسطينيين بالداخل المحتل وعلى الأراضي المقدسة، الى حين اندلاع معركة طوفان الأقصى في الثّامن من أكتوبر والتي أعادت القضية الى قلب الساحة الدولية، وجعلتها على هرم أهم وأبرز ملفات القضايا التي تتطلب حل، فأُعيد طرح حل الدولتين وارتفعت نسبة الدعم الشعبي للقضية في الأراضي العربية وفي الداخل الأمريكي والأوروبي.
كل هذا سنعالجه في العناصر التالية: نتائج التنافس الدولي على منطقة الشرق الأوسط، القضية الفلسطينية ودول الطوق: علاقة تأثير وتأثر، عملية طوفان الأقصى والموقف الدولي منها.
تتمتع منطقة الشرق الأوسط بأهمية جيوسياسية كبيرة، حيث تشكل حلقة وصل بين الشمال والجنوب، وتتحكم في مضائق وممرات بحرية استراتيجية مثل مضيق هرمز وقناة السويس. بالإضافة إلى ذلك، تحتوي المنطقة على ثروات طبيعية هائلة، حيث تمتلك ثلثي الاحتياطي العالمي من النفط وحوالي 24% من احتياطي الغاز الطبيعي. هذه الموارد جعلت المنطقة محط أنظار القوى العالمية التي تسعى إلى السيطرة على هذه الثروات لضمان استمرارية حضارة التصنيع العالمية.
في عام 2004، أطلقت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي يهدف إلى إعادة ترتيب الخارطة الجيوسياسية للمنطقة. المشروع تضمن ثلاثة أبعاد رئيسية: تشجيع الديمقراطية والحكم الراشد، بناء مجتمع معرفي، وتوسيع الفرص الاقتصادية. ومع ذلك، فإن المشروع يحمل أبعادًا جيوسياسية خطيرة، حيث يهدف إلى تفكيك النظام الإقليمي العربي وإعادة بنائه وفقًا لمصالح التحالف الأمريكي-الإسرائيلي. كما يسعى المشروع إلى طمس الهوية العربية والإسلامية وإفراغ المنطقة من محتواها الثقافي والحضاري.
القضية الفلسطينية ودول الطوق
ترتبط القضية الفلسطينية بشكل وثيق بدول الطوق مثل مصر وسوريا ولبنان والأردن، حيث تلعب هذه الدول دورًا محوريًا في الصراع العربي-الإسرائيلي. في مصر، على سبيل المثال، مرت العلاقات مع القضية الفلسطينية بمراحل متعددة، بدءًا من الحروب مع الكيان الصهيوني في عهد جمال عبد الناصر، وصولًا إلى اتفاقية كامب ديفيد في عهد أنور السادات، والتي أدت إلى بدء مسار التطبيع العربي مع إسرائيل. وفي لبنان، تشكل القضية الفلسطينية أحد أبرز عناصر الانقسام الداخلي، حيث تدعم بعض الفصائل المقاومة بينما تسعى أخرى إلى الحفاظ على التوازن مع إسرائيل.
عملية طوفان الأقصى والموقف الدولي
في 07 أكتوبر 2023، شنت حركة حماس هجومًا واسعًا أطلقت عليه اسم “طوفان الأقصى”، والذي استهدف مواقع عسكرية إسرائيلية وأسفر عن أسر مئات الجنود الإسرائيليين. جاءت هذه العملية كرد فعل على سياسات التهويد والحصار التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين. وأعادت هذه العمليّة القضية الفلسطينية إلى قلب الساحة الدولية، حيث تم إعادة طرح حل الدولتين وارتفعت نسبة الدعم الشعبي للقضية في الأراضي العربية وحتى في الداخل الأمريكي والأوروبي.
كان لعملية طوفان الأقصى تداعيات كبيرة وكثيرة على الصعيد الإقليمي والدولي. على الصعيد الفلسطيني، مثلت العملية رافعة للمقاومة وأعادت الأمل بإمكانية التحرير. أما على الصعيد الإسرائيلي، فقد كشفت عن ضعف الجيش الإسرائيلي وهشاشته. وعلى الصعيد الدولي، أفشلت العملية مخططات التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، خاصة مع السعودية، وأعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة الدولية.
من خلال تحليل أهمية الشرق الأوسط ودور القضية الفلسطينية في الصراع الإقليمي، يتضح أن المنطقة ما زالت تشكل ساحة للتنافس الدولي. الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، المدعومة من القوى الخارجية، تساهم في استمرار التضييق على القضية الفلسطينية. ومع ذلك، فإن عملية طوفان الأقصى أثبتت أن المقاومة ما زالت قادرة على إعادة القضية إلى الواجهة الدولية، وكشف حقيقة الكيان الصهيوني وممارساته القمعية.
في الأخير يتبين من خلال هذه الدراسة أن إشكالية الاستعصاء الديمقراطي في الوطن العربي ليست وليدة اليوم وإنما نتيجة تراكمات تاريخية، وتعدد في العوامل والأسباب والفواعل. وقيام أغلب الأنظمة السياسية في الغرب على الديمقراطية بما تقوم عليه من مبادئ ومرتكزات، يجعل الوطن العربي يبدو متخلفا عن ركب الحضارة ويقبع على هامش التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يغزو كل ربوع العالم بوتيرة متسارعة.
هذا العجز الذي يعيشه الوطن العربي في إنجاح التغيير من الأنظمة الديكتاتورية الى الأنظمة الديمقراطية باختلاف الأسباب بين العامل الخارجي والضغط الكبير الممارس من طرف الدول الكبرى على المنطقة وتحكمها بزمام الأمور لتضارب المصالح فيها كونها منطقة استراتيجية مهمة، وبين عدم وجود رغبة داخلية من طرف الأنظمة الحاكمة وصناع القرار في خدمة الاصلاح، فيستمرون في إيجاد الحجج والمبررات لذلك، وهو ما ينعكس ويؤثر على الساحة الإقليمية ككل فيصب في استمرارية انعدام الاستقرار والأمن في الوطن العربي وخاصة الشرق الأوسط، وبشكل مباشر على القضية الفلسطينية بتضييق الخناق عليها وتهميشها. وفي هذا السياق يستدعي الأمر الحديث عن المشروع الصهيوني، فوجود الكيان الصهيوني في فلسطين مثل مشروعا فرضه الاستعمار البريطاني ودعمته الدول الغربية وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى، ووجود هذا الكيان وتاريخه مع الشعب الفلسطيني والأمة العربية شكل حالة صراع تاريخية لا حل لها الا بالخلاص منه.
هذا الخلاص الذي تتيحه الديمقراطية في حال تحققت في الدول العربية، التي ستعود لمسار الصراع والتضييق على الكيان الصهيوني بالوحدة والتدخّل والمواقف الحاسمة إقليميا ودوليا. الا أن الساحة العربية غلب عليها الخنوع والخضوع بدخول مسار التطبيع بعد اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين الجهات المصرية والإسرائيلية.
وبرزت وتأكدت العلاقة بين متغير الاستعصاء الديمقراطي وتأثره وتأثيره على القضية الفلسطينية بشكل كبير بعد موجة الربيع العربي، فاستمرار حكم الأنظمة الاستبدادية التي لا ترد على مطالب شعوبها ولا تفتح لهم المجال للمشاركة في صنع السياسات والمشاركة في قرارات الشأن العام، يؤكد لنا أنه من غير الممكن الاتفاق على السياسة أو الاستراتيجية الخارجية مع الكيان الصهيوني كما على النظام الداخلي.
فلا يمكن لأي بلد عربي أن يحقق إجماعا وطنيا داخليا على التعايش أو الاعتراف أو التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي يستهدف سلب كل فلسطين، بالإضافة لمشروعه القومي والمشروع التوسعي الذي يمتد ليتجرأ على الدول المجاورة والشرق الأوسط بشكل عام.
ومن جهة أخرى فإن إقامة نظام ديمقراطي تداولي معاد للكيان الصهيوني سيواجه حصارًا ومعاداة من قبل أمريكا والدول الغربية ومن ثم سيواجه كل ما يمنع استقراره وهذا ما واجهته كل الدول العربية التي وقفت إلى جانب الحق الفلسطيني (التجربة المصرية في سنة حكم الرئيس المنتخب محمد مرسي على سبيل المثال) من ألوان الحصار والتضييق ودعم الانقلاب العسكري ومحاولات تفتيت الوحدة الداخلية.
فما من نظام يمكن أن يقوم في البلاد العربية إلا ويتعرض لضغوط الدول الغربية المسيطرة على النظام العالمي عسكريا، وسياسيا، واقتصاديا، وماليا، واعلاميا، للاعتراف بالكيان الصهيوني مما يجعل الحفاظ عليه واستقراره باتباعه للنظام الديمقراطي غير ممكن إطلاقا.
والمفروض أن عدم مقاومة النظام لذلك الضغط والحصار الغربي ورفض التطبيع والتعايش بالخضوع للكيان، يفقده الإجماع الوطني وتنشأ بذلك معارضة شعبية، فهذا ما تم التعود عليه في الساحة العربية سابقا، إلا أن الممارسات الاستبدادية من طرف الأنظمة ضد الشعوب باستخدام الأجهزة الأمنية والعسكرية أقعدت الشعوب العربية وجعلتها عاجزة عن إحداث وبدء التغيير من القاعدة، سواء ضد أنظمتها أو في جعل تحركاتها ومواقفها من أجل القضية ذات أثر.
وبناء على ما تم دراسته وتوضيحه في هذا الإطار تم الوصول الى مجموعة من الاستنتاجات:
1. هناك علاقة عدائية وجودية بين الديمقراطية في الوطن العربي ووجود الكيان الصهيوني في قلب البلاد العربية جغرافيا وتاريخيا ودينيا في فلسطين، فتحقُّقُ وجود نظام ديمقراطي سيصب في مصلحة القضية الفلسطينية ويقف بوجه المخططات والأهداف الصهيونية.
2. يعتبر الكيان الصهيوني من أهم أسباب الاستعصاء الديمقراطي بكونه عائقًا كبيرًا في وجه نجاح الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي وبلوغ تحقيق استقراره وأمنه.
3. تتهرب الأنظمة العربية منذ سابق عهدها من الديمقراطية بمجموعة من الحجج والمسوغات، وبعد الربيع العربي دخلت دائرة الاستبداد بالوقوف في وجه نجاح أي تجربة ديمقراطية فتية (مصر) وفي وجه مطالب التغيير وإن تطلب الأمر القمع بالسلاح (سوريا).
4. يستغل الكيان الصهيوني المشاكل الداخلية للدّول العربية حسب خصوصيات كل دولة للاستثمار فيها والحفاظ على تشتتها، مثل التعددية الطائفية والمحاصصة في لبنان، مشكلة ندرة المياه في الأردن، ومشكلة الضعف الاقتصادي والديون في مصر، والحرب الأهلية في سوريا.
5. تأكيد الفرضية التي تقول بأهمية المعطيات الجغرافية للدول العربية في الشرق الأوسط ما يزيد من حجم قدرتها على دعم القضية الفلسطينية، وفي نفس الوقت يعرضها لضغط دولي يفرض عليها انتهاج سلوك خارجي معين تجاه محيطها الإقليمي، بما يصب في صالح الكيان الصهيوني والدول الكبرى الضاغطة.
6. هناك تناقض واضح بين المواقف الشعبية العربية وبين مواقف وتحركات الأنظمة العربية وهو ما برز مع عملية طوفان الأقصى بشكل كبير، كما كانت لها تداعيات سياسية واقتصادية على الغرب بشكل عام ما جعل الجهات الرسمية تنقص من حدّة خطابها الدّاعم للكيان الصهيوني.
7. استطاعت عملية طوفان الأقصى أن تعيد القضية الفلسطينية الى الساحة الدّولية وتمنع عنها التّصفية وتعطّل مسار التّطبيع الذي بلغ منحدرا خطيرا باقترابه من السعودية.
وصال عمر
ماجستير سياسات عامة ونظم سياسية مقارنة
خريجة المدرسة الوطنية العليا للعلوم السياسية -الجزائر-