بقلم: الدكتور عصام تليمة
التعصب داء وبيل، ما أصاب أمة من الأمم، إلا قطع أوصالها، وأفسد علاقاتها، وكان سبيلا لكل تفرق وتشرذم، فهو آفة تصيب العقل فتجعله أسير الأوهام، وتصيب البصر فتجعله يصاب بعشى فكري، وتصيب الوجدان فتجعله يوجه العاطفة في غير مكانها الصحيح.
وقد تأملت في موانع التقريب والوحدة، فوجدت من أخطرها: مانع التعصب، فوقفت في هذا البحث على موقف الإسلام من التعصب، ومظاهر التعصب، والأسباب التي تؤدي إليه، وتنشئه في بيئاتنا الثقافية والدينية، ثم تلمست أسباب العلاج من هذا الداء الوبيل.
مظاهر التعصب:
للتعصب مظاهر كثيرة، تدل على وجود هذا الداء في الإنسان الذي يمارس هذه المظاهر، سواء كانت مجتمعة فيه أم متفرقة، ومن هذه المظاهر:
1ـ فرض المذاهب على الآخرين:
من أخطر مظاهر التعصب التي نعاني منها في حياتنا الفكرية والدينية: فرض المذاهب على الآخرين، أو التضييق عليهم في مذاهبهم، وإغرائهم باتباع مذهب معين، أو إجبارهم عليه، والإسلام دين لا يجب فيه اتباع مذهب بعينه، بل المسلم يتعبد إلى الله باتباع الكتاب والسنة، وليس باتباع فهم إمام معين من الأئمة، وإلا فماذا كان مذهب الصحابة والتابعين، وأي إمام اتبعوا سوى إمام المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم؟ كما أن الله لم يتعبد الإنسان في الآراء المختلف فيها، إلا بما يصل إليه اجتهاد الإنسان، وبقناعاته هو، ولكن عوام الناس لا يستطيع الكثير منهم أن يصل إلى معرفة الحكم الشرعي، وصحة التعبد إلا عن طريق سؤال أهل العلم، أو تقليد مذهب من المذاهب المتبوعة، وهذا أمر متروك لحرية الاتباع، ولا يجوز لأحد أن يجبر أحدا على تبني مذهب بعينه، سواء كان الذي يجبر الناس أفرادا أم حكاما، ورضي الله عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس، الذي أبى أن يفرض موطأه على الناس بأمر من الخليفة، ليرسخ معنى حرية اختيار المذاهب بين الناس، وخاصة عند أهل السلطة.
نعم من حق الدول والأكثريات فيها أن يكون لها مذهب عام، لكن ليس من حقها فرض هذا المذهب الذي تبنته على الآخرين من الأقليات التي تحيا في كنف الأغلبية، بل تتركهم وحريتهم، فهل معنى أن تكون هناك أغلبية سنية في دولة أن تفرض مذهبا على الشيعة، أو على سنة أهل البلد بأن تتبنى الدولة مذهبا بعينه، وتمنع التمذهب ببقية مذاهب السنة؟ أو العكس، في دولة أغلبها شيعة هل يحق لها أن تلغي مذاهب السنة، أو تتبنى مذهبا شيعيا وتلغي بقية المذاهب الشيعية؟!
إذا كان الإسلام بسماحته وعدله سمح لغير المسلمين بوجود شريعتهم، ومذاهبهم الخاصة، ومنع من التدخل في شؤونهم الدينية، ومن مفاخر تراثنا في الحضارة الإسلامية: أن وجدت كتب عنيت بالكتابة في التشريع الخاص باليهود والنصارى، فرأينا كتاب (المجموع الصفوي) لابن العسال، وهو كتاب في التشريع اليهودي، وكتاب (الأحكام الشرعية في الأحوال الشرعية) وكتاب (الخلاصة القانونية) وهما في التشريع المسيحي. وتركت الخلافة الإسلامية لغير المسلمين الحق في تعيين رئيسهم الديني، وترك الحرية التامة لهم في شؤونهم الدينية الخاصة، وأحكام الأحوال الشخصية.
فعلى الأغلبية أيا كان مذهبها وديانتها أن تراعي حقوق الأقلية، وعلى الأقلية أن تحترم الأغلبية وقانونها ومذهبها، وهذه هي أبجديات التعايش السلمي في المجتمعات.
والجبر على التزام مذهب لم يقتنع به الإنسان هو لون من القهر الذي يأباه الشرع، ولو كان الجبر على التزام رأي في قضايا فرعية جائزا، لكان من باب أولى تبني الشرع لإلزام الناس بما ليس محل اختلاف، كالإيمان بإله واحد، وإفراده بالوحدانية، إلى آخر الأمور التي هي من أركان الدين وفرائضه، ولأكرههم على الإيمان بدين واحد هو الإسلام، ومع ذلك رأينا القرآن ينهى عن إكراه الناس على الدين، وإخراجهم من أديانهم كرها، حتى لو كان من دين باطل إلى دين الحق الإسلام: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس: 99، ويقول تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) البقرة: 256.
وفي ظل الإكراه على المذاهب يأتي ما لا يحمد عقباه، من حيث اللجوء للسرية، وإظهار شيء خالف ما يبطنه المرء، فينتشر بذلك داء أخطر من داء الاختلاف، وهو ازدواج وتناقض شخصية المسلم في مجتمعه.
التضييق في حرية العبادة:
ومن ألوان التعصب ومظاهره، في فرض المذاهب: التضييق في حرية العبادة، من حيث عدم السماح له ببناء أماكن عبادته، أو إعطائه حريته في أداء عبادته حسب مذهبه، كالتضييق على السنة في بلد شيعي من بناء مساجد للسنة وخطبة الجمعة، أو التضييق على الشيعة في بناء الحسينيات، وأماكن تعبدهم.
وإذا بلغت رحمة الإسلام وعدله وتسامحه بغير المسلم أن وجدت الكنائس جنبا إلى جنب مع المساجد، كما في دولة كمصر وغيرها، ندر أن تجد كنيسة إلا بجوارها مسجد، تتناطح مآذن المساجد مع قباب الكنائس، يشقان عنان السماء معا، وهذا ما جعل فقيهين كبيرين ـ هما: الإمام الليث بن سعد الذي يعد من أئمة المذاهب ولا يقل علما عن مالك وأبي حنيفة، وعاصر مالك، وكان بينهما مراسلات، والآخر: عبد الله بن لهيعة ـ يصدران رأيا في بناء الكنائس من أنضج الآراء، كان ردا على استفتاء السلطان لهما، فقالا: إن بناء كنائس النصارى، هو داخل في عمارة دار الإسلام.[1]
2ـ مؤاخذة الآخر بلوازم كلامه:
ومن مظاهر التعصب الممقوت: مؤاخذة الآخر بلوازم كلامه، وربما لا يقصد هذا اللازم، ولا ينويه، ولا يفيده منطوق كلامه، ولا فحوى مذهبه، يقول أستاذنا الدكتور محمد سليم العوا: (التعرض لأقوال أصحاب الفرق والمذاهب، والحوار معهم فيها، يجب أن يقوم على ما يقولونه فحسب دون ما يلْزَم مما قالوه، في نظر السامع أو القارئ. أي إن الذي يُحتج به على صاحب الرأي ـ أو العقيدة أو المذهب ـ هو: لفظه الذي يفرغ فيه فكرته ويقدمها إلى الناس في قالبه دون ما يترتب ـ أو قد يترتب ـ على هذا اللفظ وتلك الصياغة من نتائج يستنتجها ذكي، أو ألمعي، أو صاحب بصيرة، أو من دون هؤلاء من الناس. لأن القاعدة المسلَّمة عند العلماء تقول: (لازم المذهب ليس بمذهب)؛ أي إن الذي يلزم الناس هو ما يقولونه بنصه وبمعناه الظاهر الذي لا يختلف عليه أهل العلم باللغة التي قيل بها، أما ما يفهمه الناس ويستنبطونه ويستنتجونه، ويؤولون الكلام إليه، فهو لا يلزم القائل في قليل ولا كثير).[2]
3ـ الإنكار في المسائل الاجتهادية:
وهو دلالة من دلالات التعصب الواضح، وآفة انتشرت في عصرنا الحديث، ترى الواحد منهم لا يرى إلا مذهبه، ولا يعترف إلا بفقهه، ولا يأخذ إلا من شيخه، ولا يعرف إلا ما يؤمن به، وما سواه فهو ينكره، غافلا عن طبيعة الدين الذي سمح بهذا الاختلاف، والذي قبل به النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث بني قريظة، ووسع برحمته وسعة أفقه الجميع، من صلى، ومن أخر الصلاة إلى الوصول لبني قريظة، ولم يعنف على أحدهما، ولم يصف من عمل بظاهر النص بالظاهرية، أو بعدم التعمق والتوغل في فهم النص، ولم يصف من عمل بفحوى النص، بأنه أعمل عقله في فهم النص، ولم يكن ملتزما بالهدي النبوي الظاهر، لا مانع من تمسكك بما ذهبت إليه، ولكن أن تنكر على الناس ما ذهبوا إليه من فقه له دليله وله وجاهته، هذا ما يأباه الشرع، وما يرفضه علماء الأمة الأثبات، فمن المعلوم لدينا في فقه الإنكار: أنه لا إنكار في المسائل الاجتهادية.[3]
4ـ الحرص الشديد على تصنيف الناس قبل الاستفادة من نتاجهم الفكري:
وهذه آفة خطرة تحرم كثيرا من الناس من الاستفادة بفكر الأئمة ومدارسهم، فترى البعض حريصا كل الحرص على التفتيش عن مذهب الكاتب قبل أن يقرأ له، وإن اتفق مع كل ما ذهب إليه من رأي علمي، لكنه جعل معرفته بمذهب الكاتب حائلا بينه والاستفادة مما جاد به فكره،
فمثلا: كلنا يحترم ويقدر ويحب عددا من الرموز، دون أن ندري بأنهم سنة أو شيعة، فمن منا لا يقدر رئيس باكستان المسلمة ومؤسسها محمد علي جناح، ولم يسأل الناس عن مذهبه، وربما لو أشيع بين الناس أنه شيعي المذهب، لتغيرت نظرة البعض ممن يحرصون على التصنيف، ولانقلب خيره إلى شر، وفضائله إلى رذائل، ولقام هذا الفريق بإعادة تفسير كل مواقفه تفسيرا آخر يتوافق مع تصنيفه بهذا التصنيف. ومن منا لم يحفظ من شعر أبي فراس ويستشهد به، ويطرب له، دون البحث عن مذهبه، فلربما حظر هذا الصنف ومنع حفظ شعره والاستشهاد به، لو عرف أنه شيعي المذهب!!
وهذا الحرص على التصنيف ليس من شيم السلف، فقد كانوا يتعاملون في مثل هذه القضايا على أساس ما يستفاد به من فكر الإنسان، رافعين شعار: الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
ولم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، الذي نقل كل خير يستفاد به بغض النظر عن ديانة هذا الخير أو معتقده، أو جنسه وأصله، كما في حفر الخندق، وغيره.
بل وضع لنا معيارا مهما في مثل هذه الأمور، وهو أن نقبل الحكمة من أي فم خرجت، مسلما كان أو غير مسلم، ولا نحرص على تصنيف الناس، فالمهم هو ما خرج منهم من خير، وهل يتصادم مع ثوابت الشرع أم لا؟ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحكم على المبادئ والمفاهيم والثقافات من حيث أهدافها ونفعها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم عن شعر أمية بن أبي الصلت الشاعر الذي مات كافرا: “آمن شعره، وكفر قلبه”.[4]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثم أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. وكاد أمية بن أبي الصلت أن يُسلم”.[5]
قال الإمام المناوي: (وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم، أي: لكنه لم يوفق بالإسلام مع قرب مشربه).[6]
وعن الشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنه قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: “هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيئا؟” قلت: نعم، قال: هيه. فأنشدته بيتا، فقال: هيه، ثم أنشدته بيتا فقال: هيه، حتى أنشدته مائة بيت. قال: إن كاد ليسلم”.[7]
قال الإمام النووي: (مقصود الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم استحسن شعر أمية واستزاد من إنشاده؛ لما فيه من الإقرار بالوحدانية والبعث، ففيه جواز إنشاد الشعر الذي لا فحش فيه وسماعه، سواء شعر الجاهلية وغيرهم).[8]
فالنبي صلى الله عليه وسلم حكم على شعره بالإسلام، وإن لم يؤمن قلبه، وكان يستنشد صحابته ويستزيدهم من شعره، رغم كفر الرجل.
كما حكم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامية مبدأ وهدف (حلف الفضول) الذي عقد في بيت عبد الله بن جدعان، قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، وهو حلف لنصرة المظلوم، فقال عنه صلى الله عليه وسلم: “لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حُمْر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت”.[9]
بل ذهب صلى الله عليه وسلم مذهبا لم يسبقه إليه أحد من قبل في تلقي النصيحة، أو ما ينفع الناس، بغض النظر عن مصدر قائله، وهو الاستفادة حتى ممن نظن فيهم الشر كله، ولا يخرج منهم إلا الشر، متمثلا ذلك في قمة الشر ورئيسه: (إبليس)، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج، وعلي عيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالاً، فرحمته فخيلت سبيله، قال: “أما إنه قد كذبك، وسيعود”. فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنه سيعود”.
فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإني محتاج، وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرحمته فخليت سبيله، قال: “أما إنه كذبك، وسيعود”.
فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود ثم تعود. قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك: فاقرأ آية الكرسي: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم). حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما فعل أسيرك البارحة؟” قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: “ماهي؟” قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم). وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟”. قال: لا، قال: “ذاك شيطان”.[10] فهنا نبه النبي صلى الله عليه وسلم على صدق إبليس في نصحه، وإن كان الأصل فيه الكذب، ولم يمنع أبا هريرة من الاستفادة من نصح إبليس أنه عرف من صاحب النصيحة، بل استفاد وقبل النصيحة حرصا منه على الخير، من أي فم خرج.
5ـ تخطئة ما سواه من الآراء:
فهو يرى نفسه الفرقة الناجية، وأنه التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: “كلها في النار إلا واحدة”. على ما في الحديث من خلاف في صحة سنده. وعلى الرغم من أن هذا الحديث يبين أن كل المذاهب على خير، ما عدا من خرج على قواعد الإسلام وفرائضه، وما هو معلوم منه بالضرورة، فهذه الخيرية ترتبط بالقرون الثلاثة الأولى، وهل سيعدم كل صاحب قول أو رأي فقهي معتبر، أن يجد له سلفا من سلف الأمة قال برأيه، سواء صح رأيه أم لم يصح؟
فهو يجزم بصواب ما يذهب إليه من رأي، ولا يترك لنفسه فرصة المراجعة، والتراجع عن رأيه، فقد يكون الرأي الذي تبناه مبنيا على تصرفات أو عرف، أو معلومات تتبدل، أو تكون فيما بعد قديمة غير صحيحة.
وليس التعصب في الجزم بصواب ما يذهب إليه الإنسان، بل التعصب في الحكم بخطأ كل من خالفه، وأن ما ذهب إليه غير قابل للتغير والتبديل.
6ـ التعميم في الأحكام:
ومن مظاهر التعصب التي تمنع من التقريب: التعميم في الحكم، فكل مخالف له حكم واحد، ويحكم على تصرف فرد من فئة بأنه توجه الفئة كلها، وأن الشيعة أو السنة كلهم سواء، والمذاهب كلها لها حكم واحد!
وهو توجه يخالف القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ويخالف ما ذهب إليه أئمة الإسلام الأثبات، فالقرآن الكريم لا يعمم في أحكامه، ولا يحكم على فريق من الناس بحكم واحد، بل يحكم على الناس بما يناسب اختلافاتهم في الرأي والتوجه والخلق والفكر، فليس هناك أشد عداء للإسلام من اليهود، ومع ذلك لم يحكم عليهم القرآن بأنهم كلهم أهل سوء وشر، بل بين أنهم ليسوا سواسية في الحكم، يقول تعالى: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) آل عمران: 113، وقال تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما) آل عمران: 75، وقد لاحظت: أن معظم (ومِن) في القرآن الكريم هي من باب الإنصاف في الحكم، فهي لا تحكم على أهل ديانة أو طائفة بحكم واحد، بل غالبا ما نجد هذا التفريق في القرآن في آيات لا حصر لها.
والتعميم في الحكم منهج يخالف السنة النبوية المطهرة، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يحكم على فصيل من الناس بالغالب عليه، بل ينصف الناس في حكمه، ويصنفهم، فرغم عداء أهل مكة له ـ قبل فتحها ـ وحربهم له، إلا أنه في صلح الحديبية لم يصدر حكما واحدا في رؤيته للناس، فقد قال عن الأحابيش: إن الأحابيش قوم فيهم رقة، فقدموا الهدي، وقال عن آخر: ليس بذاك، أي لا يميل إلى السلم، وقال عن سهيل بن عمرو: سهل الله عليكم به. وهذا يدل على عمق رؤيته، ونفاذ بصيرته صلى الله عليه وسلم في الحكم على الناس، وعدم التعميم والتغليب، أو كما يحلو لبعض الإسلاميين من الحكم بقوله: الكفر كله ملة واحدة، وبناء على ذلك يتعامل مع الجميع بمبدأ واحد، وهو أمر غير صحيح، وليس صوابا.
7ـ جعل المواقف والأقوال مصدر تفكير لا موضع تفكير:
ومن مظاهر التعصب التي توسع هوة التفرق، وتباعد بين الأمة المسلمة، وهو خطأ منهجي خطير: أن يجعل كلا الفريقين أو أحدهما المواقف التي تصدر، أو الأقوال التي تبث في الكتب، مصدر تفكير، لا موضع تفكير، وفرق كبير بين المنهجين: فالأول خطأ محض، لأنه جعل من المتغير ثابتا، فالمتغير هو الموقف والقول، الذي ربما نتج عن استفزاز من طرف لآخر، أو نتج عن سوء فهم عالم لنص شرعي.
أما الموقف الصواب والوسط في ذلك فهو: أن نجعل كل هذه المواقف التي تصدر من فصيل ضد الآخر، أو من رأي فقهي مبثوث في بطون الكتب، موضع تفكير، قابلا للأخذ والرد، وللنقاش والتصويب والتخطئة، والتبديل،
فهل من الإنصاف أن يتناول باحث سني مذهب الشيعة، عن طريق ما تبثه وسائل الإعلام، وبخاصة عند ذكرى الإمام الحسين، من فعل العوام، الذي فيه كثير من المبالغة، كاللطم، وضرب الأجساد بالجنازير، والحديد، وتمزيق الثياب، ثم نحكم على مذهب إسلامي عن طريق أفعال العوام هذه التي لا تمثل المذهب، بل تمثل مخالفات لا يقرها أهل العلم!
وهل من الإنصاف أيضا: أن يتناول باحث شيعي يريد معرفة السنة ومذهبهم، فيرصد ما يفعله عوام السنة عند الأضرحة كالسيد البدوي، أو موالد آل البيت في مصر، من تراقص باسم الذكر، مما جعل شيخنا العلامة الشيخ الغزالي يسخر منه ويسميه الرقص الديني! أو من شرب الدخان، والنارجيلة، تاركين أداء الفرائض في هذه الموالد، هل يحكم على السنة من أفعال عوامهم هؤلاء الذين ينكر علماء السنة ما يفعلونه ويحاربونه؟! فليس من الإنصاف اتخاذ هذه المواقف من كلا الطرفين مصدرا للحكم عليها.
وكذلك يدخل في هذا الباب: ما يصدر من غلاة المذهبين، من أرباب القلم، أو من كتب تراث الفريقين. فليس من الإنصاف أيضا جعل هذه الكتابات مصدر تفكير نحكم بها على المذاهب، وكيف ذلك وأول ما ندرس في الفكر الإسلامي: التفريق بين الإسلام والفكر الإسلامي، فالإسلام هو وحي الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يعتوره الخطأ. أما الفكر الإسلامي: فهو فهم المسلمين وعلماؤهم لهذا الوحي، وهو بين تشديد وتيسير، وبين إفراط وتفريط، بين فهم مستقيم، وفهم معوج، والفكر الإسلامي كله ليس حجة على الإسلام، بل الإسلام حجة عليه، وعلى مجتهديه.
وهذه التفرقة تعلمنا في التعامل مع المذاهب، كيف نفرق بين الثابت والمتغير، وكيف أن ما يصدر من أفكار ليس له حكم الثبات الذي لا يقبل التغير والتطور.
أسباب التعصب:
وقفنا على مظاهر التعصب، وهي عدة مظاهر كما أسلفنا، وبقي أن نتعرف على أسباب التعصب، كي يعيننا فهم الأسباب على تلمس أسباب العلاج، وللتعصب عدة أسباب ـ فيما أرى ـ وهي:
1ـ سبب شخصي:
وأول سبب يكون سبيلا لجعل المرء متعصبا، هو سبب شخصي، يعود إلى شخصيته وتكوينها، وما جبل عليه من خلال وخصال، فهو مثلا شخص مجبول بفطرته على الضيق بالآخر، وعدم اتساع الصدر لتقبل الآخرين، فهو يضيق بكل رأي خالفه سواء كان من جماعته، أو من جماعة أخرى، من مذهبه أم من مذهب آخر، بل ربما وصل ضيقه بالرأي الآخر بأبنائه وزوجه وأهل بيته وعشيرته الأقربين، وذلك يعود إلى جبلة الشخص التي جبل عليها، ولم يحاول تلمس علاج لهذه الأمر فيه.
لقد كان التعصب هو المانع الذي منع رجلا كأبي جهل من الإسلام، ولم يكن عن عدم قناعته بهذا الدين، أو رفضه له، بل إن حنقه وحسده وتعصبه ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه لذلك، فقد قال معللا سبب كفره بمحمد صلى الله عليه وسلم: “كنا وبني هاشم كفرسي رهان، سقوا فسقينا، وأطعموا فأطعمنا، قالوا: منا نبي، فأنَّى لنا بهذه؟!”. فهو ليس كارها لدين محمد، إلا لتعصب جبلي فيه.
2ـ سبب بيئي:
وهناك سبب آخر يصنع التعصب، وهو البيئة التي يحيا فيها المرء، فهناك بيئة باعثة على التعصب، وهو البيئات التي يغلب فيها الطابع العرقي، والقبلي، والمذهبي دون تفهم لقيمة الخلاف، وتعدد الآراء، فهي بيئة تصنع من الإنسان ـ شاء أم أبى ـ إنسانا يميل إلى التعصب للقبيلة والعائلة، والعرق، والطائفة، والمذهب، بقصد أم بدون قصد، وقديما قالوا: الإنسان ابن بيئته، فلو أن إنسانا ولد في بيئة تصبح وتمسي على الارتفاع بشأن العرق والمذهب على أي شيء آخر، وتغذى منذ صغره في بيئته على هذا الأمر، سوف ينظر فيما بعد لكل ما عدا معتقده وثقافته على أنه أصغر وأقل وأحقر مما هو عليه، بل ربما نظر إليه نظرة إقصاء، والبيئة التي يغلب عليها إقصاء الآخر أيا كان هذا الآخر، وإن حاول من داخله أن يكون منصفا متسامحا، سيجد أن ضغط الواقع البيئي يمثل عليه عبئا ليس بالقليل، فإما أن يثبت بمبادئه المنفتحة على الآخر، وإما أن يستجيب ـ كشأن الكثيرين ـ لهذا الضغط، ويسير في ركب التعصب، ويجاري العامة، ويداهنهم، وبذلك تؤثر فيه البيئة ولا يغير من فساد حالها.
3ـ سبب ثقافي:
وهناك عامل مهم أيضا يغذي ويساعد على انتشار داء التعصب، وهو سبب يعود إلى الثقافة التي تلقى في نفوس الأفراد في هذا المجتمع، هل هي ثقافة تبعث على التسامح والتغافر، والتفاهم والتحاور، وتقدير الآخر، ومراعاة شعوره، أم هي ثقافة ضيقة، تصنع جوا ثقافيا يبعث على الضيق بالآخر، والتعصب للمبادئ صوابا كانت أم خطأ؟ وهناك عدة ثقافات أدى غيابها إلى تهيئة جو تعصبي شديد فمنها:
أـ غياب ثقافة الاعتذار:
فلا شك أنه يوجد في مسيرتنا العلمية والتاريخية أخطاء صدرت عن الفريقين، وكان يكفي لإنهاء هذه الأخطاء: اعتذار يليق بالحدث، أيا كان حجمه.
وثقافة الاعتذار ثقافة إسلامية صرفة، ولا يوجد في كتاب سماوي مواقف للاعتذار عن الخطأ كما في القرآن الكريم، ولا يوجد في دين سماوي كالإسلام فيه هذا الكم الهائل من فتح باب الاعتذار، وإن كانت لا تحمل عنوان الاعتذار المباشر، فمثلا: كل آيات التوبة، والدعوة إليها، هي دعوة للاعتذار لله عز وجل عما اقترف المسلم في حق ربه سبحانه وتعالى. والحدود في الإسلام هي اعتذار من المسلم الذي اقترف حدا، فهو اعتذار لله، واعتذار للمجتمع. بل في الصلاة يوجد سجود السهو وهو اعتذار لله عز وجل عن سهوه في صلاته، وعدم خشوعه لله، وقدم القرآن الكريم نماذج كثيرة لاعتذارات الأنبياء، كاعتذار نبي الله يونس، (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت إني كنت من الظالمين) الأنبياء: 87، واعتذار موسى عليه السلام للعبد الصالح: (فانطلقا حتى إذا ركبا في السفنية خرقها قال أخرقت لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا. قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا) الكهف: 71-73.
ب ـ غياب ثقافة الحوار:
ومن الأسباب الثقافية التي أدت إلى انتشار وباء التعصب: أنه غاب عن ساحتنا العلمية والدعوية ثقافة الحوار البناء، الحوار العلمي الهادئ المتزن. والعجيب أن القرآن الكريم كتاب حوار، والسنة النبوية مملوءة بالحوار مع أشد المخالفين للإسلام، وأكثرهم عداء وحدة ضده، وهي حوارات أكثر من أن تحصر.
فلا بد من فتح باب الحوار مع كل الجهات العلمية، سواء مع المؤمنين أم الكافرين، مع الموافقين والمخالفين، وأسوتنا في ذلك القرآن الكريم الذي ذكر حوار الله مع إبليس، وحوار أنبياء الله مع أقوامهم الكافرين، فبغياب هذه الثقافة؛ ثقافة الحوار ينتشر التعصب، وتزداد وتيرة الغلو.
وحتى يكون حوارنا صحيا، وبعيدا عن التعصب، يجب علينا ألا نبغي بحوارنا الجدل والسفسطة، وتعميق الجراح الفكرية، أو نكأ جراح الماضي، إنما لا بد أن تكون بغيتنا من ذلك: الوصول إلى الحق، وألا نضع نتائج قبل الحوار، بل ندع للحوار حرية كاملة، وألا نضع له سقفا، بل يعبر كل منا عما بداخله، ويفضي بشجونه وآلامه، ومؤاخذاته على الطرف الآخر، فإذا كنا متفقين في كذا وكذا، فلا شك أننا نختلف في قضايا يزول اللبس فيها، وينتهي الغبش عنها بالحوار، فقد نكون فهمنا شيئا خطئا، أو نقلناه عن مرجع غير معتمد، أو مصدر غير موثوق فيه، أو من شخص تعجل في الحكم، أو في الفهم، فنكتشف بعدها بالحوار أننا بنينا أسوارا من الوهم، وحواجز من التعصب، كان سببها عدم الحوار، وتبادل الآراء، وقد قال الإمام علي رضي الله عنه: من حاور الناس شاركهم في عقولهم. وكما يقول أهل الحكمة: الإنسان عدو ما يجهل، والجهل بالآخر يزول بالحوار لا محالة.
جـ ـ غياب ثقافة النقد:
ومن أهم الأسباب التي جعلت التعصب ينتشر، وينمو في بيئتنا الثقافية والدينية والعلمية: غياب ثقافة النقد، سواء النقد الذاتي، أم قبول النقد الصادر من الآخر، وذلك مخافة أن نواجه أنفسنا بأخطائنا، ونقف أمام مرآة النفس، لنرى صورة واضحة لأفعالنا وتصرفاتنا، ومواقفنا.
وضرب القرآن الكريم نماذج عديدة للمسلمين تربيهم على ثقافة النقد، وبخاصة نقد الذات، ومن هذه النماذج، نموذج غزوة أحد، الذي يعلم المسلمين الوقوف قبل العمل، وأثناء العمل، وبعد العمل، لنتأمل: هل نسير على أهدافه التي ترضي الله سبحانه وتعالى أم لا؟ ثم بعد انتهاء العمل، هل أنجزناه كما خططنا له، وهل نجحنا في تحقيق الهدف أم أخفقنا؟ فقد وقف الصحابة يتساءلون فيما بينهم، بعد هذا المصاب، وهذه الهزيمة ليقولوا: ما السبب في هزيمتنا؟! يقول تعالى: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير) آل عمران: 165.
ونموذج آخر فصل الله فيه أهمية الوقفة مع النفس، ونقد الذات، إنه نموذج أصحاب الجنة يقول تعالى: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة) إنهم قاموا بتصرف خاطئ، وأرادوا حرمان المساكين من حقهم الذي كتبه الله لهم، فعوقبوا بإهلاك الثمرة (فطاف عليهم طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم) إنهم أمام اكتشاف ما حدث وتفسير ما حدث.
إنهم فعلوا في الأول ككل ما يفعله البشر في البحث عن كبش فداء في صورة خارجية.
فأولا تطمين خادع للنفس إنه لم يحصل شيء، كل ما حصل هو أننا ضللنا الطريق وهذا ليس بستاننا (فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين. وغدوا على حرد قادرين فلما رأوها قالوا إنا لضالون) القلم: 23-26.
ولكن تبين بعد قليل أنها هي هي لم تتغير.. إذن التفسير الآخر الذي يقوم على تنزيه النفس بشكل غير مباشر.. إن الظلم وقع علينا وإننا مظلومون.. بل نحن محرومون..
هنا تدخل الرجل المعتدل العاقل (أوسطهم) ليرشدهم إلى جوهر المشكلة (ألم أقل لكم لولا تسبحون) القلم: 28. إن المشكلة عندكم في أنفسكم وليست في الخارج.. راجعوا أنفسكم، واكتشفوا الخطأ الذي حدث.. قوموا بعملية نقد الذات..
ويبدو أن القوم كان فيهم بقية من عقل، ولم يرتكبوا حماقة جديدة بالبقاء على تصرفهم كما كان، فاعترفوا بأنهم كانوا (الظالمين) وليس (المظلومين المحرومين).
فأقبلوا يقومون بعملية اللوم الجماعية للتنظيف الداخلي الجماعي، فكما أن عملي اللوم السابقة كانت فردية، فهي هنا جماعية (فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون) القلم: 30 وهذا هو الموقف التحليلي الصحيح.
إن موقف الاعتراف هو بداية حل المشكلة (إنا كنا ظالمين) القلم: 29 (قالوا يا ويلينا إنا كنا طاغين) القلم: 31. فالمشكلة بدأت من نفوسنا، ولم تبدأ من العالم الخارجي، إنه موقف طاهر حين تبدأ عملية مراجعة النفس، ونقدها، ولومها، ومحاسبتها، وتقويمها.[11]
د ـ تبني ثقافة اجترار الماضي:
ومن مظاهر التعصب، التي تسكب الزيت على النار، وتزيد من اشتعال ناره: اجترار الماضي بما فيه من أحداث كانت موضع خلاف شديد، ولا قيمة لإعادة الحديث عنها، وهي مسائل تاريخية خلافية، أفضى أصحابها إلى ربهم، وصاروا بين يديه سبحانه وتعالى، يحكم بينهم بالحق، ويفصل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.
ومن هذه القضايا التاريخية التي لا فائدة منها في الحاضر: ما دار من خلاف بين الصحابة، أو التابعين أو السلف من أئمة المذاهب، حول الإمامة، ومن الأحق بها، وقد تناول السيد جمال الدين الأفغاني إحدى هذه القضايا التاريخية الشائكة بروح منصفة نحتاج إليها في حاضرنا، وهي: مسألة تفضيل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والانتصار له يوم قتاله معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وخروجه عليه، فقال: “فلو سلمنا أنه كان في ذلك الزمن مفيدا، أو ينتظر من ورائه نفعا لإحقاق حق، أو إبطال باطل، فاليوم نرى أن بقاء هذه النعرة، والتمسك بهذه القضية التي مضى أمرها، وانقضى مع أمة قد خلت، ليس فيها إلا محض الضرر، وتفكيك عُرى الوحدة الإسلامية.
لو أجمع أهل السنة اليوم ووافقوا المفضلة من الشيعة (من عرب وعجم) وأقروا وسلموا بأن علي بن أبي طالب كان أولى بتولي الخلافة قبل أبي بكر، فهل ترتقي بذلك العجم؟! أو تتحسن حال الشيعة؟! أو لو وافقت الشيعة أهل السنة، بأن أبا بكر تولى الخلافة قبل الإمام علي بحق، فهل ينهض ذلك بالمسلمين السنيين، وينشلهم مما وقعوا فيه اليوم من الذل والهوان وعدم حفظ الكيان؟! أما آن للمسلمين أن ينتبهوا من هذه الغفلة؟! ومن هذا الموت قبل الموت؟!
يا قوم، وعزة الحق إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لا يرضى عن العجم ولا عن عموم الشيعة، إذا هم قاتلوا أهل السنة أو افترقوا عنهم لمجرد تفضيله على أبي بكر، وجميعهم لا يحسنون أمر دنياهم، والناس أبناء ما يحسنون.
وكذلك أبو بكر فلا يرضيه أن تدافع أهل السنة عنه، وأن تقاتل الشيعة لأجل تلك الأفضلية التي مر زمنها، والتي تخالف روح القرآن الآمر أن يكونوا كالبنيان المرصوص).[12]
ويقول العلامة محمد مهدي شمس الدين عن أثر اجترار القضايا التاريخية الماضية، وكيف أنها وسعت هوة التعصب بين المذاهب الإسلامية، وبخاصة في مسألة الإمامة، وكيف أن إدخالها في باب العقائد وعلم الكلام، كان سببا كبيرا في فرقة الأمة، وانتشار وباء التعصب فيها، يقول رحمه الله:
أـ إن اللازم الأعظم لعقيدة الشيعة الإمامية في الإمامة كما عرضها علم الكلام القائم الآن، هو (بطلان التاريخ)، الذي وقع خارج شرعية الإمامة منذ أبي بكر، وإلى آخر سلطان، أو خليفة خارج هذه الشرعية.
وإذا كان من شرعية لبعض فصوله، فإنما حصلت بإجازة وإمضاء الإمام المعصوم علي بن أبي طالب عليه السلام، على رأي من علماء الشيعة، كثيرون يذهبون إليه.
ولا شك في بطلان التاريخ، في غير ما حصلت الإجازة فيه على الرأي المشار إليه، على أساس نظرية الشيعة في الإمامة طيلة عهد الإمامة المعصومة الظاهرة، أعني إلى حين الغيبة الكبرى في نهاية الثلث الأول من القرن الرابع الهجري. وهذا ما لا شك فيه، وكل من يقول خلافه من الشيعة فهو مجامل أو جاهل.
ولكن تعميم هذا اللازم على مطلق الزمان، يقتضى استمرار بطلان التاريخ بعد الغيبة الكبرى إلى حين يأذن الله تعالى بظهور الإمام المعصوم الثاني عشر الغائب.
ويقتضي كون الموقع التنظيمي ـ السياسي للسنة، كلهم خارج الشرعية السياسية عند الشيعة.
وهذا يقتضي على المستوى المجتمعي السياسي للأمة، ضرب وحدة الأمة وانقسامها في القضية السياسية ـ النظيمية، برمتها. وهذا يقتضي انتهاك المقدس، والضروري المعتقدي الذي هو وحدة الأمة الإسلامية الذي يلتزم به الشيعة عقيديا، وليس فقهيا فقط، أصوليا، وليس فرعيا فقط.
ب ـ واللازم الأعظم في المقابل لعقيدة أهل السنة في الخلافة ـ الإمامة، كما عرضها علم الكلام الأشعري التقليدي، وعلم الفقه التقليدي في المذاهب، هو، صحة وحقانية وإسلامية التاريخ، الذي وقع منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين اتبعوه بإحسان، وإلى آخر خليفة عباسي شكلي في مصر، أو إلى آخر سلطان أو خليفة عثماني، على رأي شائع أيضا بين الإسلاميين.
وهذا اللازم في مقابل اللازم الشيعي، يقتضي خروج الشيعة عن الشرعية السياسية للأمة، وخروجهم عن وحدة الأمة.
وقد تتالت نتائج هذا اللازم عند بعض فقهاء أهل السنة، إلى نتيجة الحكم بكفر الشيعة، وخروجهم عن الإسلام.
وهي نتيجة لا بد من الوصول إليها بحكم التسلسل الطبيعي المنطقي لهذا الأصل، وربما ينتهي التسلسل الطبيعي للأصل الشيعي في الإمامة، إلى نفس الفرع والنتيجة، أعني إلى التكفير.
هذا على المستوى العقيدي والفقهي.
وأما على المستوى السياسي ـ التنظيمي، فإنه يقتضي كون الموقع التنظيمي ـ السياسي للشيعة، خارج الشرعية السياسية على الإطلاق عند السنة. وهذا يقتضي انتهاك الأصل المقدس، والمعتقد الأصل، وهو وحدة الأمة الإسلامية.
هذا أيضا لا شك حسب علمَي الكلام والفقه عند أهل السنة.
ولكن تعميم هذا اللازم من التيارين، على مطلق الزمان، ومطلق المكان، ومطلق الظروف يقتضي، من وجهة النظر الشيعية، استمرار بطلان التاريخ بعد الغيبة الكبرى ـ كما ذكرنا ـ على المستوى المجتمعي ـ السياسي، انتهاك المقدس، والمعتقد الأصلي، وضرب وحدة الأمة، ويؤدي ـ وقد أدى بالفعل ـ إلى انقسامها في القضية السياسية ـ التنظيمية برمتها.
لقد انتهك المقدس والضروري، وهو وحدة الأمة الإسلامية، من قبل السنة والشيعة معا. ويؤدي توالد النتائج من الأصل الكلامي عند كل واحد من الفريقين إلى هذا المحذور). [13]
إن اجترار التاريخ وأحداثه، وانطلاق المواقف المعاصرة منه، كان ولا يزال مظهرا ورافدا للتعصب، يغذيه كلما اجتررنا جراحات الماضي، وأثرنا قضايا أصبحت في ذمة التاريخ، في وقت كانت هناك خلافة للإسلام ممتدة، يعيش في ظلالها الوارفة أمة واحدة، وإذا جاز هذا الترف العلمي في وقته، فاليوم لا مجال له، وقد أرادت القوى التي تبغض الإسلام تنحيته من حياة الناس، وأنظمتها، وقوانينها.
في الأمة الآن أناس ـ عن عمد أو عن غير عمد ـ مولعون بالنبش في قبر الماضي، وإخراج ما فيه من أحداث لا تبعث إلا على العصبية والضغينة، وإثارة الأحقاد بين الأمة، وللأسف يحدث ذلك كله باسم الإسلام، والانتصار له!!
4ـ سبب خارجي:
ويتمثل في مؤامرات الأعداء ومخططاتهم، لغرس بذور التعصب التي تؤدي إلى الفرقة والتشرذم بلا شك، وتغذية هذه الروافد، ودعمها، بل وتضخيمها.
قابل أحد الإخوة الباحث الأمريكي ريتشارد ميشيل، في دولة الكويت في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، فسأله الأخ: ماذا تعمل في الكويت يا د. ريتشارد؟ قال: أنا هنا أدرس الجماعات الإسلامية والمذاهب، وأدرس الخلافات التي بينها.[14]
وهل سيدرس رجل كريتشارد ميشيل هذه الخلافات للقضاء عليها، أم يا ترى ستستفيد مراكز البحث عند الغرب من هذه المواطن، لتزكيتها، وتغذيتها، وإنبات بذرة التفرق، ورعايتها؟!
علاج التعصب:
التعصب ليس داء مستعصيا لا علاج له، فما من داء إلا وأنزل الله له دواء، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم، المهم أن نبحث عن كل وسيلة تؤدي إلى استئصال هذا الداء، ومن هذه الأدوية التي تعين على القضاء على داء التعصب:
1ـ إشاعة روح الإنصاف:
وذلك بإشاعة الأقوال التي تنصف الفريقين، في المدارس والحوزات والكتب والمؤلفات، فلا شك عندما أجد عند المذهب الشيعي ما ينصف المذهب السني، أو العكس، لا شك أن هذه الروح تسري، وتثبت حسن النوايا تجاه كل فريق، يقول الدكتور يوسف القرضاوي: (وأود أن أنصح الفريقين من السنة والشيعة أن يحرصوا على نقل الأقوال التي من شأنها أن تجمع ولا تفرق، وأن تقرب ولا تباعد، وأن تزرع المحبة لا الأحقاد ولا البغضاء، فإنها هي الحالقة، لا تحلق الشعر ولكن تحلق الدين.
من ذلك ما نقله العلامة الهندي الشيخ رحمة الله في كتابه القيم (إظهار الحق) الذي رد به على المنصِّرين فأفحمهم؛ قال رحمه الله:
(وأنقل خمسة أقوال لأهل البيت عليهم السلام، على عدد الخمسة الطاهرين عليهم السلام.
(1) في “نهج البلاغة” الذي هو كتاب معتبر عند الشيعة، قول علي رضي الله عنه هكذا: (لله در فلان فلقد 1: قوم الأَوْد، 2: وداوى العمد، 3: وأقام السنة، 4: وقمع البدعة، 5: ذهب نقي الثوب، 6: قليل العيب، 7: أصاب خيرها، 8: وسبق شرها، 9: أدى إلى الله طاعته، 10: واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدي فيها الظال، ويستيقن المهتدي) انتهى.
والمراد بفلان ـ على مختار أكثر الشارحين منهم، البحراني ـ: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعلى مختار بعض الشارحين: عمر الفاروق رضي الله عنه، فذكر علي رضي الله عنه عشرة أوصاف، من أوصاف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلا بد من وجودها، ولما ثبتت هذه الأوصاف له بعد مماته بإقرار علي رضي الله عنه، فما بقي في صحة خلافته شك.
(2) وفي “كشف الغمة” الذي هو تصنيف علي بن عيسى الأردبيلي الاثني عشري الذي هو من الفضلاء المعتمدين عند الإمامية: (سئل الإمام جعفر عليه السلام عن حلية السيف: هل تجوز؟ فقال: نعم، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه. فقال الراوي: أتقول هكذا؟ فوثب الإمام عن مكانه، فقال: نعم الصديق، نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل له: الصديق، فلا صدّق الله قوله في الدنيا والآخرة).
فثبت بإقرار الإمام الهمام أن أبابكر الصديق رضي الله عنه صديق حق، منكره كاذب في الدنيا والآخرة.
(3) ووقع في بعض مكاتيب علي رضي الله عنه – على ما نقل شارحو نهج البلاغة – في حق أبي بكر وعمر رضي الله عنهما هكذا: “لعمري إن مكانهما من الإسلام لعظيم، وإن المصاب بهما لحرج في الإسلام شديد، رحمهما الله، وجزاهما الله بأحسن ما عملا”.
(4) ونقل صاحب (الفصول) الذي هو من كبار علماء الإمامية الاثنى عشرية عن الإمام الهمام محمد الباقر رضي الله عنه هكذا: “إنه قال لجماعة خاضوا في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم: ألا تخبروني: أنتم من المهاجرين الذي أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله؟ قالوا: لا . قال: فأنتم من الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم؟ قالوا: لا. قال: أما أنتم فقد برئتم أن تكونوا أحد هذين الفريقين، وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله تعالى فيهم: (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذي آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم)الحشر: 10.
فالخائض في الصديق والفاروق وذي النورين رضي الله عنهم، خارج من الفرق الثلاثة الذين مدحهم الله بشهادة الإمام الهمام رضي الله عنه.
(5) وفي التفسير المنسوب إلى الإمام الهمام الحسن العسكري رضي الله عنه وعن آبائه الكرام: (إن الله أوحى إلى آدم ليفيض على كل واحد من محبي محمد وآل محمد وأصحاب محمد: ما لو قسمت على كل عدد ما خلق الله في طول الدهر إلى آخره، وكانوا كفارا، لأداهم إلى عاقبة محمودة، وإيمان بالله، حتى يستحقوا به الجنة، وإن من يبغض آل محمد وأصحابه أو واحدا منهم: يعذبه الله عذابا لو قسم على مثل خلق الله لأهلكهم أجمعين).
فعلم أن المحبة إنما تكون بالنسبة إلى الآل والأصحاب رضي الله عنهم لا بالنسبة إلى أحدهما، وإن بغض واحد من الآل والأصحاب كاف للهلاك، نجانا الله من سوء الاعتقاد في حق الصحابة والآل رضوان الله عليهم أجمعين وأماتنا على حبهم، ونظرا إلى الآيات الكثيرة والأحاديث الصحيحة اتفق أهل الحق على وجوب تعظيم الصحابة رضي الله عنهم).[15]
2ـ إشاعة فقه الإعذار:
وهو فقه ـ للأسف ـ يغيب عن ساحاتنا الدعوية، فيجب علينا أن نلتمس العذر لكل من خالفنا في المذهب، بل الإسلام يطالبنا بالتماس الأعذار لمن خالفنا في الدين، فقد لا يعرف بما جرى في ديانته من تحريف، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن أهل الكتاب وتحريفهم لكتابهم، وبيان الموقف ممن قلد ولم يعرف بهذا التحريف: (وعلى هذا فإن كان بعض أهل الكتاب قد حرفوا بعض الكتاب، ومنهم آخرون لم يعلموا ذلك، فهم مجتهدون في اتباع ما جاء به الرسول، لم يجب أن يجعل هؤلاء من المستوجبين للوعيد). [16]
فما المانع من أن أحسن الظن بالآخر، وألتمس له الأعذار، فيما صدر منه من خطأ، وقد قال سلفنا الصالح: التمس لأخيك سبعين عذرا، فإن لم تجد، فقل: لعل له عذرا لا أعرفه. وليس الأخ هنا هو أخي في العقيدة، أو في المذهب، أو في الدم، بل الأخوة في الإسلام أخوة عامة، وهي أخوة الإنسانية، وقبلها ـ بلا شك ـ الأخوة الخاصة، أخوة الدين، وكلنا مسلمون.
3ـ تحرير موضع النزاع:
كثير من القضايا التي يثور حولها الجدل، ينقصها أمر مهم، ربما لو حدث لزال كثير من الخلاف، وهو: تحرير موضع النزاع، وممارسته في قضايا الخلاف الشائكة يريح، ويعمق الحوار، ويقضي على التعصب.
ولنأخذ نموذجا لقضية يثور حولها الجدل في العلاقة بين السنة والشيعة، وهي مسألة (التقية)، والتي يكال بسببها الاتهام للشيعة، ولو أن الدارس المنصف للقضية تناولها بعيدا عن المثيرات والمهيجات والتشويش، لانتهى إلى نتيجة أخرى غير ما يعلق في ذهن كثير من المتعصبين ضد الشيعة بسبب هذه القضية، فـ (التقية) أمر موجود عند السنة والشيعة على السواء، ومصدرها قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) آل عمران: 28. وتحرير موضع النزاع هنا يقتضي منا أن نناقش لماذا يلجأ الشيعي للتقية إن لجأ إليها، بدل أن نناقش هل يقوم مذهب الشيعي على التقية أم لا؟
إن من يلجأ للتقية من أي مذهب شيعي أو سني، لا شك هو جو الاستبداد والديكتاتورية، والحرمان من الحقوق والحرية في العبادة، والمعاملة، الذي يجلئ الإنسان إلى العمل تحت الأرض، أو بباطن وظاهر، هو الطرف الآخر الذي يملك القوة والنفوذ، لو أعطى الناس حريتهم في الحياة والتدين، ما وجدوا سبيلا للتخفي الظاهري والباطني، ولا شك أن الإنسان بطبيعته ليس مولعا بحياة السراديب، وتنظيمات ما يسمى بتحت الأرض.
4ـ التركيز على القواسم المشتركة:
ومن الوسائل المهمة التي تساعد في القضاء على التعصب: أن نركز على القواسم المشتركة بين المذاهب الإسلامية، ونعمق هذه القواسم، وننميها، وهناك تجربة مهمة قام بها المجمع العالمي للتقريب في هذا الدور، فقد قام بجمع الأحاديث المشتركة بين السنة والشيعة، ووجدها كثيرة لا حصر لها. وقد كنت أود لو اشترك في هذا العمل الجليل علماء من السنة، حتى يلقى العمل قبولا عند السنة، وحتى ينال ثقتهم، أو على الأقل تشكل لجنة للمراجعة يكون فيها عدد من علماء السنة، لينال العمل بذلك رضا الطرفين.
5ـ الرد على المتعصب من أهل طائفته:
ومما يساعد على منع التعصب، كوقاية، والوقاية خير من العلاج بلا شك: أن يتولى الرد على متعصبي أي فريق من أهله، فهو بذلك يثبت للفريق المقابل أن ما صدر من تعصب ليس موضع رضا، ولا محل قبول أو إجماع من أهل المذهب، وهذا الأمر هو ما دعا إليه دعاة التقريب بين المذاهب الإسلامية، وبخاصة السنة والشيعة، في الربع الأول من القرن الماضي (العشرين)، وبخاصة العلامة محمد آل كاشف الغطاء، والعلامة محمد رشيد رضا، فقد وضعوا قاعدتين في هذا الأمر، اشتهرت الأولى منهما، وغابت الثانية ولا ندري عنها شيئا، وقد سميتا ـ فيما بعد ـ: بقاعدتي المنار الذهبيتين، الأولى: (نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه). والثانية: (من اقترف سيئة من التفريق والعداء أو غير ذلك من إحدى الطائفتين، بقول أو كتابة، فالواجب: أن يتولى الرد عليه العلماء والكتاب من طائفته). [17]
6ـ إشاعة فقه التثبت:
وعلينا أن نشيع بين الناس: فقه التثبت، وهو الذي دعا إليه الإسلام، ونماه وسبق به الأديان والأمم السابقة، يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) الحجرات: 6، وهو ما عرف في ديننا بالإسناد، وكتب فيه مجلدات لا حصر لها، فيما سمي بعلم الجرح والتعديل، وهو علم التثبت من صحة ما يقال.
وفي مثل الحديث عن المذاهب يكون التثبت بعدة أمور: أولها: أن ينقل من مصادر القوم، لا من مصادر الخصوم.
ثانيا: البحث في مدى صحة ما هو منقول منهم، فقد ينقل الباحث من مصدر مذهب من المذاهب، لكن هذا المصدر ليس معتمدا عندهم، أو يوجد من هو أصح منه في المذهب، وهو أمر مشهور عندنا في فقه السنة، كما نرى في مذهب الإمام مالك مثلا، فالمشارقة لا ينقلون إلا عن الدسوقي، والدردير وغيرهما، على خلاف أهل المغرب العربي الذي يعتبرون في النقل عن مذهب مالك عن سحنون وابن عرفة، وهكذا، نجد في كل مذهب المصادر القوية المعتبرة، والمصادر التي هي أقل قوة واعتبارا، وهكذا كل مذهب.
ثالثا: أن يؤخذ كل علم من مظانه التي خصصت له، فلا يؤخذ الفقه من كتب الحديث، ولا الحديث من كتب التفسير، ولا العقائد من كتب الفقه، ولا شيء من ذلك كله من كتب الأدب والتاريخ وما إليها. [18]
فمثلا مما اشتهر بين صفوف علماء السنة: أن المذهب الشيعي يعتمد في الاستدلال على مذهبه بعدة كتب أهمها: (الكافي) للكليني، و(من لا يحضره الفقيه) للصدوق، وكذلك اشتهار إساءتهم للخلفاء الثلاثة: أبي بكر، وعمر، وعثمان. وهو أمر مشتهر، ولكن عند التدقيق نجد أن هذا الكلام كان سائدا في فترة، وتغير، أو ليس مذهبا غالبا، يقول العالم السعودي الشيعي البارز الشيخ حسن الصفار:
(كانت المدرسة السائدة عند علماء الشيعة في عصور سابقة: هي المدرسة الإخبارية، والتي يرى أقطابها صحة ما ورد من أحاديث وروايات في الكتب الأربعة (الكافي للكليني ت 329هـ، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق ت 381هـ، التهذيب والاستبصار للشيخ الطوسي ت 460هـ) لكن المدرسة الإخبارية قد انقرضت أو تقلصت إلى حد كبير، وأصبح الاتجاه السائد منذ ثلاثة قرون تقريبا هو المدرسة الأصولية، التي لا ترى قطعية صدور كل ما ورد في الكتب الأربعة، بل تخضع مروياتها للدراسة والنقد.
ومثال آخر يرتبط بما يأخذه السنة والسلفيون على الشيعة من الإساءة للخلفاء الثلاثة، فإذا كان ذلك موجودا في بعض كتب الشيعة وماضيهم وتراثهم، فإنه قد يكون ناتجا عن الظروف التي كانوا يعيشونها آنذاك من القمع والاضطهاد، لكن الواقع الفعلي للشيعة بعيد عن مثل هذه الأمور، فالشيعة الإيرانيون ـ مثلا ـ وقد أصبحت السلطة بيد علمائهم منذ ربع قرن، ودولتهم من أقوى دول المنطقة، إلا أن وسائل إعلامهم، وخطب جمعهم التي تبث على الهواء، وأحاديث قياداتهم، لم يحصل فيها شيء من هذا القبيل، حتى في أوج ما عانوه من العدوان العراقي المدعوم من قبل أغلب الأنظمة العربية.
وكذلك الحال بالنسبة للشيعة في لبنان، وهم القوة الأبرز هناك، ومع النصر العظيم الذي حققوه على العدو الصهيوني، إلا أن وسائل إعلامهم كفضائية (المنار) لم يرصد عليها شيء من الإساءة للخلفاء، وأجلاء الصحابة، وأمهات المؤمنين.
إن في ذلك دلالة واضحة على تجاوز واقع الشيعة المعاصر لمؤاخذات كانت تحسب على بعضهم في أزمنة غابرة).[19]
7ـ التعرف على المذاهب:
فينبغي أن نتعرف على المذاهب تعرفا صحيحا، ومن مصادره لا من مصادر خصومه، فينبغي على علماء السنة ومثقفيهم أن يعرفوا عن التشيع أكثر مما يعرفون، وأن يتفهموا الأبعاد النفسية والاجتماعية والسياسية التي أحاطت بنشأة التشيع، ووجهت مساره، وحددت كثيرا من معالمه، فليس أمر المسلمين كله أمر مقابلة نصوص بنصوص، ومقارعة حجج عقلية، بحجج عقلية أخرى، فتلك كلها أسلحة يستخدمها البشر في تحقيق مقاصدهم، وتسوية حساباتهم، وإدارة صراعهم، ولو فعل علماء السنة ذلك لقطعوا نصف الطريق إلى (تعايش إسلامي شامل)، ولقطعوا الطريق على دعاة الفتنة الطائفية الذين يقبعون كالقناصة على جانبي الطريق ينتظرون الفرصة لإشعال نيرات التعصب والانحياز والانقسام). [20]
هذه وقفات مع التعصب، عن مظاهره، وأسبابه، وتلمس أسباب العلاج منه، لعلي أكون وفقت في إثارة الموضوع، وطرحه طرحا يعتبر بداية للتعامل معه، من حيث الوقوف عليه، لتلافي أسبابه في المستقبل، والقضاء على مظاهره، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.
ملاحق
الملحق (1)
لا إنكار في المسائل الاجتهادية
من الأخطاء العلمية التي يقع فيها أهل المذاهب، في مسائل الخلاف: الإنكار في المسائل الاجتهادية، بل وتشتعل نار الخلاف والعصبية بسبب ميل البعض لرأي من الآراء، ويشدد في النكير، ويعنف فيه، والموقف المعروف والمشهور عن علماء الأمة الأثبات في مثل هذه القضايا: أنه لا إنكار في المسائل الاجتهادية، إنما يكفيه أن يستدل على رأيه، ويرشد مخالفه إليه برفق فقط، تاركا له حرية تبني الرأي الذي اقتنع به، والذي ترجح دليله لديه، ولانتشار هذه الظاهرة وتفشيها، فقد جمعت عددا لا بأس به من أقوال الفقهاء والعلماء من معظم المدارس الفقهية، لتكون معمقة لهذه الفكرة التي تنافي التسامح الفقهي، والتعايش المذهبي.
سفيان الثوري:
روى أبو نعيم في (الحلية) بإسناده عن سفيان الثوري قوله: “إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه، وأنت ترى غيره فلا تنهه”.[21]
وروى الخطيب البغدادي عنه قوله: “ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحدا من إخواني أن يأخذ به”.[22]
المدرسة الشافعية:
ففي المدرسة الشافعية الفقهية، رأينا أئمة كبارا، أصلوا لهذه الفكرة، وعمقوها، وبينوها بجلاء لا غبش فيه، وأنقل هنا عن ثلاثة أئمة من المدرسة الشافعية، هم: الغزالي، والنووي، والسيوطي.
الإمام الغزالي:
ذكر الإمام الغزالي الشافعي في كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) في (الإحياء) في أركان (الحسبة): أن يكون المنكر المُحْتَسَبُ فيه منكرا معلوما بغير اجتهاد، فكل ما هو محل الاجتهاد، فلا حسبة فيه.
فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله الضبع ومتروك التسمية، ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي نكاحه بغير ولي، وشربه النبيذ الذي ليس بمسكر، وجلوسه في دار أخذها بشفعة الجوار، ونحو ذلك.[23]
الإمام النووي:
وقال الإمام النووي الشافعي في شرح مسلم: (أما المختلف فيه، فلا إنكار فيه. لأن على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب. وهذا هو المختار عند كثير من المحققين، أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر: المصيب واحد، والمخطئ غير متعين لنا، والإثم مرفوع عنه).[24]
العز بن عبد السلام:
يقول الإمام العز بن عبد السلام: (فمن حفظ المتفق عليه وواقع المختلف فيه: فإن كان يعتقد التحريم فعله، أو تركه فقد أثم، وإن لم يعتقد ذلك لم يأثم، لأنه قلد بعض العلماء فلا حرج على المقلدين، لاتفاق المسلمين على ذلك في الحديث والقديم؛ فلا ينكر الشافعي على الحنفي فيما يعتقده الحنفي إذا لم يتطهر من مس النساء، ولا الحنفي على الشافعي إذا احتجم وصلى من غير تجديد وضوء، ولا الشافعي على المالكي إذا تزوج بغير شهود، وترك بسملة الفاتحة في صلاته). [25]
ثم قال في موضع آخر: (الإنكار متعلِّقٌ بما أُجمع على إيجابه أو تحريمه. فمن ترك ما اختلف في وجوبه أو فعل ما اختلف في تحريمه: فإن قلد بعض العلماء في ذلك فلا إنكار عليه، إلا أن يقلده في مسألة ينقض حكمه في مثلها، فإن كان جاهلا لم ينكر عليه، ولا بأس بإرشاده إلى الأصلح. وإنما لم يُنْكر عليه لأنه لم يرتكب محرما، فإنه لا يلزمه تقليد من قال بالتحريم ولا بالإيجاب، ولا يلزم العاصي التزام مذهب معين، فإن الناس في زمن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن ظهرت المذاهب لم يزالوا يقلدون العلماء في الوقائع المختلف فيها من غير التزام لمذهب معين، ولم ينكر ذلك أحد من العلماء، ولم يقل أحد من المفتين لم استفتاه إذا استفتي: فلا تسل غيري. وهذا مما نعلمه بالضرورة. ولا بأس بإرشاد العامي إلى ما هو أحوط في دينه، ولا بأس بمناظرة المجتهد ليرجع إلى الدليل الراجح.
واختلاف العلماء رحمة، وعلى هذا فلا يجوز الإنكار إلا لمن علم أن الفعل الذي نهى عنه مجمع على تحريمه، وأن الفعل الذي يأمر به مجمع على إيجابه.
ونعني بالنهي عن الإنكار: أن لا ينكره إنكار الحرام، ولو أنكر إنكار الإرشاد، أو أمر به أمر النصح والإرشاد فذك نصح وإحسان). [26]
الإمام السيوطي:
وجعل الإمام السيوطي في كتابه (الأشباه والنظائر) هذا المعنى قاعدة من قواعد الفقه الكلية، فيقول: “لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المجتمع عليه”.
موقف الحنابلة:
ولم يختلف موقف المدرسة الحنبلية عن بقية المدارس الفقهية في هذه القضية، وهو ما يدحض موقف بعض المنتسبين للمدرسة بإنكارهم وتشددهم في مثل هذه القضايا، والإنكار الحاد في القضايا الخلافية. وننقل هنا عن أئمة وأعلام المذهب الحنبلي بداية بالإمام أحمد ونهاية بالإمام ابن القيم.
الإمام أحمد بن حنبل:
فقد قال الإمام أحمد في رواية المروذي: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه، ولا يشدد عليهم.
وقال مهنا: سمعت أحمد يقول: من أراد أن يشرب هذا النبيذ يتبع فيه شرب من شربه فليشربه وحده.[27]
الإمام ابن رجب:
وقال العلامة ابن رجب الحنبلي: (والمنكر الذي يجب إنكاره: ما كان مجمعا عليه، فأما المختلف فيه، فمن أصحابنا من قال: لا يجب إنكاره على من فعله مجتهدا فيه، أو مقلدا لمجتهد تقليدا سائغا. واستثنى القاضي في (الأحكام السلطانية) ما ضعف فيه الخلاف، وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه، قال: كنكاح المتعة فإنه ذريعة إلى الزنى.[28]
الإمام ابن قدامة:
وقال ابن قدامة الحنبلي في (المغني): لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بمذهبه، فإنه لا إنكار في المجتهدات. [29]
موقف ابن تيمية:
بل هناك نقول مهمة عن شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي ينسب البعض التشدد والتعصب المذهبي بدون بينة، فقد سئل الإمام ابن تيمية عن والٍ له مذهب أو رأي معين في بعض البيوع أو الشركات: هل له أن يلزم الناس باتباع مذهبه، ويمنع الآخرين من التعامل وفق مذاهبهم؟
فأجاب: ليس له منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره، مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع.
واسترشد بموقف مالك، حين استشاره الرشيد –أو أبو جعفر- أن يحمل الناس على (موطئه) في مثل هذه المسائل، فأبى ذلك وقال: إن أصحاب رسول الله تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم (وفي رواية: فإذا حملتهم على أمر واحد تكون فتنة) ومن هنا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة[30]
فما كان من الآراء مستندا إلى مذهب من المذاهب الاجتهادية المعتبرة عند الأمة، أو إلى صحابي أو تابعي أو إمام معتد به، فلا حرج على من أخذ به، ولا يجوز الإنكار عليه.
إنما يجوز إبداء الرأي المخالف بطريقة علمية موضوعية، بعيدة عن الطعن في الآخرين، والتجريح لهم، بل مجرد تعريض بالرأي الآخر، وإرشاد إليه، مع التزام الحكمة والموعظة الحسنة، والحفاظ على المودة، والبعد عن الغلظة والخشونة والحدة، التي لا ينبغي أن يحملها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، إلا لمن خرق أمرا مجمعا عليه بيقين، مقطوعا به عند العلماء.
ولذا قال ابن تيمية: إن هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها. ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه.[31]
الإمام ابن القيم الحنبلي:
ويقول الإمام ابن القيم الحنبلي في مسألة القنوت في الصلاة: (نعم صَحَّ عن أبي هريرة أنه قال: والله لأنا أقربكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، فيدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار.[32]
ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، ثم تركه، فأحب أبو هريرة أن يعلمهم أن مثل هذا القنوت سنة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، وهذا رد على أهل الكوفة الذين يكرهون القنوت في الفجر مطلقا عند النوازل[33]وغيرها، ويقولون: هو منسوخ، وفعله بدعة، فأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء وبين من استحبه عند النوازل وغيرها، وهم أسعدُ بالحديث من الطائفتين، فإنهم يقنتون حيث قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتركونه حيث تركه، فيقتدون به في فعله وتركه، ويقولون: فعله سنة، وتركه سنة، ومع هذا فلا ينكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعله مخالفا للسنة، كما لا ينكرون على من أنكره عند النوازل، ولا يرون تركه بدعة، ولا تاركه مخالفا للسنة، بل من قنت فقد أحسن، ومن تركه فقد أحسن، وركن الاعتدال محل الدعاء والثناء وقد جمعهما النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
ودعاء القنوت دعاء وثناء، فهو أولى بهذا المحل، وإذا جهر به الإمام أحيانا ليعلم المأمومين فلا بأس بذلك، فقد جهر عمر بالاستفتاح ليعلم المأمومين. وجهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ليعلمهم أنها سنة، ومن هذا أيضا جهر الإمام بالتأمين، وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يُعنَّف فيه من فعله، ولا من تركه، وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه، وكالخلاف في أنواع التشهدات، وأنواع الأذان والإقامة، وأنواع النسك من الإفراد والقران والتمتع، وليس مقصودنا إلا ذكر هديه صلى الله عليه وسلم الذي كان يفعله هو، فإنه قِبْلةُ القصد، وإليه التوجه في هذا الكتاب، وعليه مدار التفتيش والطلب، وهذا شيء، والجائز الذي لا ينكر فعله وتركه شيء، فنحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز ولما لا يجوز، وإنما مقصودنا فيه: هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يختاره لنفسه، فإنه أكمل الهدي وأفضله. فإذا قلنا: لم يكن من هديه المداومة على القنوت في الفجر، ولا الجهر بالبسملة، لم يدل ذلك على كراهية غيره، ولا أنه بدعة، ولكن هديه صلى الله عليه وسلم أكمل الهدي وأفضله، والله المستعان.[34]
الإمام اليوسي المالكي:
وللإمام أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي المتوفى (1102هـ) المسمى بغزالي عصره رسالة تتعلق بموضوع (وصل المرأة شعرها) بين فيها أن المسألة فيها آراء عدة، وبخاصة أن المرأة قد تستخدمه لزوجها فذلك يباح، ولذا لا يجوز الإنكار في هذه المسألة على من اقتنع بأحد الآراء، قال رحمه الله:
(وما سوى ذلك فعسى أن يكون عموم البلوى به خفيفا، ومن أراد أن يسلك فيه ظاهر اللفظ، ويعمم النهي، ويحتسب فيه فليحتسب على نفسه، ولا يحتسب على غيره بحال. إلا عند التدليس كما قررنا.
ثم تكلم عن المرأة التي تقتنع برأي التحريم في القضية، هل تنكر على من أخذت برأي من أباح؟ فقال:
إذا كانت من أهل العلم والحسبة في الدين، فلتفعل ذلك في نفسها، ولا تتعرض لغيرها إلا بإرشاد أو تعليم.[35]
رأي بعض المعاصرين:
ويقرر هذا المعنى من المعاصرين الشيخ محمد بن عبد الوهاب عند حديثه عن (التوسل) فيقول: “فكون بعض يرخص بالتوسل بالصالحين، وبعضهم يخصه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر العلماء ينهى عن ذلك ويكرهه، فهذه المسألة من مسائل الفقه، ولو كان الصواب عندنا قول الجمهور أنه مكروه. فلا ننكر على من فعله، ولا إنكار في مسائل الاجتهاد”.[36]
الإمام حسن البنا:
فقد ذكر الأستاذ حسن البنا رحمه الله أهم أسباب الخلاف الفقهي وأبرزها وخلاصة هذه الأسباب:
1ـ اختلاف العقول في قوة الاستنباط، وإدراك الدلائل، والغوص على أعماق المعاني، وارتباط الحقائق بعضها ببعض. والدين آيات وأحاديث ونصوص، يفسرها العقل والرأي في حدود اللغة وقوانينها، والناس في ذلك جدّ متفاوتين، فلا بد من خلاف.
2ـ ومنها: سعة العلم وضيقه، وأن هذا بلغه ما لم يبلغ ذاك، والآخر شأنه كذلك.
3ـ ومنها: اختلاف البيئات، ولهذا رأينا فقه العراقيين يختلف عن فقه الحجازيين، بل رأينا الفقيه الواحد تختلف به البيئة فيختلف رأيه.
4ـ ومنها: اختلاف الاطمئنان القلبي إلى الرواية عند التلقي لها. فبينا نجد هذا الراوي ثقة عند هذا الإمام، تطمئن إليه نفسه، وتطيب إليه نفسه، وتطيب بالأخذ عنه، تراه مجروحا عند غيره لما علم من حاله.
5ـ ومنها: اختلاف تقدير الدلالات، فهذا يعتبر عمل الناس مقدما على خبر الآحاد مثلا، وذاك لا يقول معه به.. وهذا يأخذ بالحديث المرسل، وهذا لا يأخذ به.
ثم يقول الإمام الشهيد: “كل هذه الأسباب جعلتنا نعتقد: أن الإجماع على أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل، بله هو يتنافى مع طبيعة الدين، وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقى ويخلد ويساير العصور، ويماشي الأزمان، وهو لهذا سهل مرن، هين لين، لا جموع فيه ولا تشديد.
نعتقد هذا، فنلتمس العذر ـ كل العذر ـ لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونرى أن هذا الخلاف لا يكون أبدا حائلا دون ارتباط القلوب، وتبادل الحب والتعاون، وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ، بأفضل حدوده، وأوسع مشتملاته. ألسنا مسلمين وهم كذلك؟ ألسنا نحب أن ننزل على حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون ذلك؟ أولسنا مطالبين بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا؟ ففيم الخلاف إذن؟ ولماذا لا يكون رأينا مجالا للنظر عندهم كرأيهم عندنا؟ ولماذا لا نتفاهم في جو من الصفاء والحب إذا كان هناك ما يدعو إلى التفاهم؟
هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخالف بعضهم بعضا في الإفتاء فهل أوقع ذلك اختلافا بينهم في القلوب؟ وهل فرق وحدتهم؟ أو فرق رابطتهم؟ اللهم لا. وما حديث صلاة العصر في قريظة ببعيد. [37]
كما سلك البنا لوحدة الأمة سبيلا عمليا هاما، ويمنع من التعصب، وهو أن صاغ دستورا للوحدة الثقافية بين الجماعات العاملة للإسلام، في عشرين مبدأ، سماها بالأصول العشرين، لتكون وثيقة تعاون بين الجماعات الإسلامية العاملة في حقل الدعوة، فكتب مقالا مطولا تحت عنوان: (في سبيل الوحدة.. آراء ومقترحات) [38] وجهه إلى فضيلة شيخ الأزهر، وهيئة كبار العلماء الموقرة، وإلى رجال الجماعات الإسلامية والفكر الإسلامي، ومن هذه الأصول العشرين وضع أصلين مهمين في الاختلاف الفقهي وعدم الإنكار، يقول رحمه الله:
(ولكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماما من أئمة الدين، ويحسن به مع هذا الاتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صح عنده صلاح من أرشده وكفايته. وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر).
(والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء، ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف، في ظل الحب في الله، والتعاون على الوصول إلى الحقيقة، من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب). [39]
ملحق (2)
كتب أحد كتاب الشيعة يرد ويهاجم العلامة الشيخ محمد رشيد رضا، فكتب يرد عليه، فأرسل له العلامة الشيعي الشيخ محمد آل كاشف الغطاء رسالة يعتب عليه شدته في المقال، فنشرت مجلة المنار كل هذه التفاصيل والرسائل المتبادلة بين الطرفين، فأردت نقلها لنقف على مرحلة مهمة من تاريخ التقريب، ومحاربة التعصب الفكري والمذهبي. نشرت مجلة (المنار) تحت عنوان: (السنة والشيعة الاتفاق بينهما، والوسيلة إليه، ورأينا ورأي علامة الشيعة فيه):
(قد علم قراء المنار ما سبق لي من السعي الحثيث منذ ثلث قرن ونيف للاتفاق والوحدة بين المسلمين بالقول والعمل والكتابة والتصنيف، وإنني أُلجئت في هذه الآونة الأخيرة إلى الرد على عالمين من علماء الشيعة لكتابين لهما كانا من أكبر أسباب التفريق والتعادي، وإن أحدهما طعن في كتابه على ديني وعقيدتي وأخلاقي… إلخ، والثاني طلب مناظرتي مدعيًا استحالة الاتفاق والتعاون بين أهل السنة والشيعة إلا أن ترجع إحدى الفرقتين إلى مذهب الأخرى في مسائل الخلاف
الأساسية .
ويعلمون أنني لم أقبل الدخول في المناظرة على هذه القاعدة التي وضعها الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين إلا أن يقره عليها جمهور علماء الشيعة، وطالبتهم ببيان رأيهم في زعمه هذا، فلم يرد عليه أحد منهم ، وإنني افترصت لقاء مجتهد علمائهم الأشهر في هذا العصر الأستاذ الكبير الشيخ محمد آل كاشف الغطاء في القدس أثناء عقد المؤتمر الإسلامي العام ، فأطلعته على ما كتبه الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين وسألته رأيه فيه فأنكره أشد الإنكار ، ووعد بإجابتي إلى استنكاره والرد عليه كتابة كما اقترحت ، ليعلم ذلك من قرءوا تلك الدعوى في المنار ويقنعوا بأن أكبر علماء الشيعة يخالفونه فيه ، واشترط هو أن أسأله ذلك كتابة ففعلت .
وذكرت في الجزء الماضي أن الجواب قد جاء من حضرته، وأنني سأنشره في هذا الجزء ؛ إذ كان ردي على الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين في الجزء الماضي في موضوع طعنه في علم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد طال حتى انتهى بي إلى آخر الجزء ، وكان له بقية استغنيت عنها ، وقد قلت : إن هذا الرد ليس ردًّا على الشيعة ؛ وإنما هو رد على منكر علم عمر ، ولم يكن لي بد منه بعد نشر تلك النظريات الباطلة ، والروايات التي لا يعرف ناقلها درجتها من الضعف ، وقد حمَّلها ما تتبرأ من حمله من سوء الفهم ، وإنني أنشر الآن جواب الأستاذ كاشف الغطاء ، وأقفي عليه بما يزيد الحقيقة كشفًا .
(جواب العلامة آل كاشف الغطاء:عقيدة الشيعة في الاتفاق)
بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد في السموات والأرض، لما جمعني المؤتمر الإسلامي العام المنعقد ليلة الإسراء في القدس الشريف بالعلامة الشهير ، إمام السنة والحديث ، الأستاذ الهمام ، صاحب منار الإسلام ، السيد محمد رشيد رضا نفع الله المسلمين بمنار علومه – دفع إليَّ كتابًا بخطه يتضمن السؤال عن عقيدة الشيعة في إخوانهم من أهل السنة ، وأنه هل صحيح ما ربما يقال من أنه لا يمكن اتفاق الشيعة الإمامية معهم على شيء ولو كان لصالح الفريقين ، إلا إذا رجعوا إلى رأي الشيعة فيما يخالفونه فيه ؟ إلى أن قال دام تأييده :فأنت أيها الأستاذ أكبر مجتهدي الإمامية فيما قد اشتهر في بلادنا ، وعلى قولك نعتمد … إلخ ما كتب .
ونحن نرغب إليه أن ينشر عنا في الجواب على صفحات مناره الأغر ما يلي : إن إجماع الشيعة الإمامية من سلف إلى خلف – ولعله من ضروريات مذهبهم لا يخالف فيه أحد من فضلائهم فضلاً عن علمائهم – أن من دان بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، ولم ينصب العداوة والبغضاء لأهل بيت النبوة سلام الله عليهم – فهو مسلم وسبيله سبيل المؤمنين ، يحرم دمه وماله وعرضه ، وتحل مسادرته ، ومصاهرته ، ولا تحل غيبته ولا أذيته ، وتلزم أخوته ومودته ، أخوة جعلها الله في محكم كتابه ، وعقدها في أعناق المسلمة من عباده ، فأصبحتم بنعمته إخوانًا والمؤمنون بعضهم أولياء بعض ، وقد استفاض في السنة النبوية من طرق الفريقين أن المسلم أخو المسلم شاء أو أبى ، والمسلم من المسلم كالعضو من الجسد إلى كثير من أمثال هذا .
وما سُعد الإسلام وصعد إلى أعلى ذروات العز والمجد إلا يوم كان محافظًا على تلك الأخوة ، وما انحط إلى أسفل دركات السقوط والذلة إلا بعد أن أضاع تلك القوة ، ويشهد الله سبحانه أن ما ذكرته من عقيدة الشيعة الإمامية في إخوانهم المسلمين هو الحقيقة الراهنة التي لا محاباة فيها ولا تقية ، وإن ظهر من كلام بعض العلماء خلافها فلعله من قصور التعبير وعدم وفاء البيان ، ومن شاء الزيادة في اليقين فدونه الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين سلام الله عليه وهي زبور آل محمد صلى الله عليه وسلم ، فلينظر في دعائه لأهل الثغور الذي يقول في أوله:
اللهم صل على محمد وآل محمد ، وحَصّن ثغور المسلمين بعزتك ، وأيد حماتها بقوتك ، وأسبغ عطاياهم من جدتك … إلخ الدعاء على طوله ، وهل يشك أحد أن حماة الثغور في عصر الإمام زين العابدين عليه السلام – أعني عصر بني أمية – كانوا من جمهور المسلمين وأكثرهم بل كلهم من السنة ، والصحيفة السجادية تالية القرآن عند الإمامية في الاعتبار وصحة السند .
والقصارى أني أعلن عني وعن جميع مجتهدي الشيعة الإمامية في النجف الأشرف وغيرها ، أن اتفاق المسلمين واشتراكهم في السعي لصالح الإسلام والمحافظة عليه من كيد الأغيار ، لم يزل ولا يزال من أهم أركان الإسلام وأعظم فرائضه وأهم وظائفه ، أما النزاعات المذهبية ، والنزعات الجدلية فهي عقيمة الفائدة في الدين، عظيمة الضرر على الإسلام والمسلمين ، وهي أكبر آلات المستعمرين .
فرجائي إلى الأستاذ صاحب المنار أن لا يعود إلى ما فرط منه كثيرًا من التحريش بالشيعة ، ونشر الأبحاث والمجادلات مع بعض علماء الإمامية ، والطعن المر على مذهبهم الذي لا يثمر سوى تأجيج نار الشحناء والبغضاء بين الأخوين ، ولا يعود إلا ببلاء الضعف والتفرقة بين الفريقين ، ونحن في أمس الحاجة اليوم إلى جمع الكلمة ، وتوحيد إرادة الأمة ، وإصلاح ذات البين .
والأستاذ الرشيد – أرشد الله أمره – ممن يعد في طليعة المصلحين ، وكبار رجال الدين، فبالحري أن يقصر ( مناره الإسلامي ) على الدعوة إلى الوفاق والوئام ، وجمع كلمة الإسلام ، ويتجافى في كل مؤلفاته – سيما في تفسيره الخطير- عن كل ما يمس كرامة ، أو يثير عصبية أو حمية ، أو يهيج عاطفة ، وأن يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ؛ فإن ذلك أنجع وأنفع ، وأعلى درجة عند الله وأرفع ، وعلى هذه خطاي وخطتي ، وهي ديني وديدني ، عليه أحيا وعليه أموت إن شاء الله .
وإليه تعالى أرغب وأبتهل في أن يجمع كلمتنا على الحق والهدى حتى نكون يدًا واحدة في نصرة هذا الدين الحنيف ، إنه أرحم الراحمين .
حرره في زاوية النجف الأشرف المقدسة يوم النصف من شهر رمضان المبارك سنة1350
محمد الحسين آل كاشف الغطاء
(المنار)
هذا نص الجواب الموعود من سماحة العلامة الواسع الصدر، الجليل القدر، وهو على حسنه ولطفه دون ما سمعت منه بالمشافهة ، ودون ما كنت أتوقع من الصراحة ، جاء مجملاً ليس حزًّا في المفاصل ، لم يذكر فيه كلمة الخصم الشنعاء ؛ وإنما أشار إليها ( بربما يقال ) وحصر كلامه في رأي الشيعة الإمامية في ( إخوانهم المسلمين ) وقال إنها مجمع عليها بالشرط الذي ذكره ، وإنه إن ظهر من كلام بعض العلماء خلافها فلعله من قصور التعبير وعدم وفاء البيان ، فتضمن قوله هذا الاعتذار عن الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين بأنه ليس فيه إلا قصور التعبير عن مذهبهم وعدم وفاء البيان به ، وهذا السيد ليس ضعيف البيان بل هو فصيح العبارة قلما يوجد في معاصريه مثله في حسن بيانه وصراحته ، وهو يرى أن أكثر الصحابة والسواد الأعظم من المسلمين من بعدهم قد نصبوا العداوة والبغضاء لأهل بيت النبوة سلام الله عليهم ، من عهد أبيهم علي كرم الله وجهه إلى الآن ، وكذلك الأمة العربية في جملتها كما يُعلم من كلمته الأولى من كلماته الثلاث ، وحجته الكبرى على ذلك تقديم غيره عليه بالخلافة ويليها من الحجج مخالفة أهل السنة لما يفهمه هو بوجدانه من الروايات الصحيحة في مناقبه ولما يذكره من الروايات الباطلة فيها ، ويطعن في حفاظ السنة حتى البخاري ومسلم لعدم روايتها ، فهو يعدهم كلهم من النواصب المتبعين لغير سبيل المؤمنين – فهو يسلم ما قاله العلامة كاشف الغطاء من أن عدم نصب العداء لأهل البيت شرط لصحة الإسلام وولاية أهله – ولا يراه ردًّا عليه أو تخطئة له ، وكذلك السيد محسن العاملي لا يعده ردًّا على كتابه الذي يعدني فيه مع الوهابية غير متبعين لسبيل المؤمنين ؛ لأننا ننكر الحج إلى المشاهد وعبادة قبور أهل البيت أو عبادتهم بالدعاء والطواف بقبورهم ؛ ولكننا نعبد الله تعالى بالصلاة على نبيه وعلى آل بيته في الصلاة وغيرها ، ونتقرب إليهم بحبهم وولايتهم ، وبالحكم على من ينصب لهم العداوة والبغضاء بأنه عدو الله ورسوله ، وبهذا القول يقول جميع أهل السنة من الوهابية وغيرهم ، ولا يرون القول بصحة خلافة الراشدين كما وقعت ووجوب حبهم وحب سائر الصحابة منافيًا لذلك ، فما قاله الأستاذ في ناحية الشيعة مجمل غير كافٍ ولا شافٍ .
بيد أنه عندما توجه إلى ناحية السنة وأهلها تفضل على صاحب المنار بالنصيحة إلى ( ما فرط منه كثيرًا من التحريش بالشيعة ) … إلخ إلخ ، وهو يعلم أن صاحب المنار كان مبدوءًا لا بادئًا ، ومدافعًا لا مهاجمًا ، ولم يكن محرشًا ولا متحرشًا .
ولم يكن يخفى على ذكاء الأستاذ ما يكون لهذا الجواب عندنا من كلتي ناحيتيه ، وما ضمه بين قطريه ، وهو ما رأينا من حسن الذوق الاكتفاء بالإشارة إليه ، فشفعه بكتاب شخصي ، يتضمن الاعتذار عما توقعه من تأثير الجواب السلبي ، قال فيه بعد الاعتذار عن تأخيره بما هو مقبول :
ما قاله العلامة في كتابه الشخصي :
نأمل من ألطافه تعالى أنكم لا تزالون متمتعين بالصحة والعافية ، والعز والكرامة ، مستمرين على منهاجكم الدائب في خدمة العلم والدين ، وكونوا على ثقة من أننا لا نزال ندعو لكم بالتأييد والتسديد ، وأن يجعل الحق مناركم عاليًا ، ونور معارفكم لظلمات الجهل ماحيًا ، ولا تزال ذكرى أخلاقكم الطيبة وعوارفكم الذكية ماثلة في نفوسنا ، شاخصة أمامنا .
وتجدون مع هذا الكتاب جواب الرقيم الذي تفضلتم به وأرجو أن تجدوه كافيًا شافيًا ، وتنشروه على صفحات مناركم الزاهر ليعم النفع به ، ويكون إحدى همزات الوصل بين المسلمين وتمزيق ما نسجته عناكب الأوهام على ذلك الصرح المشيد ، وهي الغاية التي نتوخاها في جميع جهودنا ومساعينا ، ولعلكم أحرص عليها منا ، وما التوفيق إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
وقد تجافيت عن ذكر القائل بتلك المقالة الغريبة والتي لا يوافقه عليها أحد نظرًا لبعد الملاحظات التي لا تخفى عليكم ( إن تجد عيبًا فسد الخللا ) اهـ المراد منه .
( المنار(
إن عبارة هذا الكتاب، تكشف لنا الغطاء عما خفي في ذلك الجواب، مما تنطوي عليه جوانح كاتبهما من أريحية إسلامية، تأتلف بها معارفه العقلية وعوارفه القلبية، وعما رأى أنه مضطر إليه في مقامه من الرياسة في علماء المذهب من مداراة المدارك المتفاوتة، والوجدانات الموروثة، واكتفائه من صدق لقبه ـ كاشف الغطاء ـ أن يبلغ غاياته في الدروس الفقهية، والفنون العقلية واللغوية، ويقف دونها من مهاب الأهواء الطائفية والمذهبية، التي تختلف فيها الأفهام وتتزاحم الأوهام، موقف مراعاة الجامدين ومداراة المتعصبين، اهتداء بما روي في الصحيح عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: حدِّثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله. وروي عنه أنه كان يقول: إن هنا لعلمًا جمًّا لا أجد له حملة. وأشار إلى صدره. نقله صاحب نهج البلاغة.
فهذا ما أشرحه من عذر صديقي في إجماله في الجواب على ما فيه من موضع النظر، ووصفه إياي بالتحريش والطعن المر بالشيعة، ومطالبتي بالكف عن العودة إلى ذلك معبرًا عنه بلفظ الرجاء، واجتنابه الإنكار على هؤلاء المهاجمين، وما هو بالعذر الذي يرضاه منه جميع القارئين.
سيجدني صديقي العلامة المصلح عند رجائه إن شاء الله تعالى، بيد أنني أرى أن ما نسعى إليه من جمع الكلمة، ووحدة الأمة، لا يرجى نجاحه من طريق الدين إلا بسعي علماء الطائفتين له على القاعدتين اللتين رفعنا بنيانهما في المنار:
الأولى: (نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه). والثانية: (من اقترف سيئة من التفريق والعداء أو غير ذلك من إحدى الطائفتين، بقول أو كتابة، فالواجب: أن يتولى الرد عليه العلماء والكتاب من طائفته) وإذا لم يكن صديقنا الأستاذ الكبير آل كاشف الغطاء هو الإمام القدوة لمن ينهضون بهذا الإصلاح، وهو هو في رياسته العلمية، وثقة الطائفة بإخلاصه ونصحه، فمن ذا الذي يتصدى له من دونه؟ إن المبالغة في مداراة القاصرين، تقف بصاحبها دون ما هو أهل له من زعامة المصلحين، كان أستاذنا العلامة الشيخ حسين الجسر نسيج وحده في علماء سورية الجامعين بين علوم الشرع، والوقوف على حالة هذا العصر، ولولا مبالغته في مداراة الجامدين من المعممين وكذا العوام أيضًا لكان ثالث السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده في زعامة الإصلاح، وإنني قد صارحته باستنكار هذه المبالغة في المداراة مشافهة له، وهو ما انتقدته على كتاب الرسالة الحميدية له من إيراد المسائل العلمية التي لا شك فيها بعبارات تدل على الشك فيها، واحتمال صحتها بالفرض والتسليم الجدلي، ثم قلت له وقد اعتذر بمداراة الجامدين. إذا لم يكن مثل مولاي الأستاذ في مكانته من سعة العلم والصلاح يجرئ المسلمين على الجزم بالمسائل العلمية التي يستنكرها أو يجهلها الجمهور ، فمن ذا الذي يجرئهم على هذا ولا يخشى اعتراض الجاهلين؟
فأرجو من الأستاذ الكبير كاشف الغطاء أن يتأمل ما ذكرته من توقف التوفيق والتأليف على بنائه على القاعدتين المناريتين عسى أن يجد عنده قبولاً، ولا يخفى عليه أن علماء الدين إذا لم يجمعوا كلمة المسلمين بهدايته على القيام بمصالحهم المشتركة فقد يغلبهم الملاحدة المتفرنجون على أكثرهم، ويقنعونهم بأن الدين أكبر المصائب عليهم ! [40]
[1] انظر: تاريخ مصر وولاتها للكندي ص131. نقلا عن: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري للمستشرق الألماني آدم متز ص69.
[2] انظر: العلاقة بين السنة والشيعة للدكتور محمد سليم العوا ص: 11،10. طبعة سفير الدولية بالقاهرة.
[3] انظر: الملحق رقم (1) من هذا البحث، فقد أفردت له مساحة في نقول عن معظم أئمة المدارس الفقهية عن عدم جواز الإنكار في المسائل الاجتهادية.
[4] ذكره الفاكهي في أخبار مكة (3/203) برقم (1973) وابن حجر في الإصابة (1/251) و(8/51) عن ابن عباس رضي الله عنهما. وابن عساكر في تاريخه عن سعيد بن المسيب مرسلا، انظر: فيض القدير (5/517).
[5] رواه البخاري (3628) ومسلم (2256) وابن أبي شيبة في مصنفه (5/272) برقم (26015) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي (1/524).
[7] رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (5/272) برقم (26012).
[8] انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (15/13).
[9] رواه ابن إسحاق في السيرة كما في ابن هشام (1/92) وقال الشيخ الألباني في تخريجه: وهذا سند صحيح لولا أنه مرسل، ولكن له شواهد تقويه، فرواه الحميدي بإسناد آخر مرسلا أيضا كما في البداية (2/92) وأخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (1655) و(1676) من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعا دون قوله: “ولو دعيت به في الإسلام لأجبت” وسنده صحيح. انظر: فقه السيرة للشيخ الغزالي بتحقيق الشيخ الألباني ص 82. طبعة إدارة إحياء التراث الإسلامي بدولة قطر.
[10] رواه البخاري في الوكالة (2187) وفي بدء الخلق (3101) وفي فضائل القرآن (4723).
[11] انظر: في النقد الذاتي لخالص جلبي ص 22،21 طبعة مؤسسة الرسالة الثانية.
[12] انظر: الأعمال الكاملة للأفغاني ص 330 بتحقيق د. محمد عمارة. والآثار الكاملة للأفغاني (6/153،152) إعداد وتقديم: سيد هادي خسرو شاهي. طبعة: مكتبة الشروق الدولية.
[13] انظر: التجديد في الفكر الإسلامي لآية الله محمد مهدي شمس الدين ص:164-166. طبعة دار المنهل اللبناني.
[14] حدثني بهذه الحادثة شيخي العلامة الشيخ يوسف القرضاوي نقلا عن الأخ الذي قابل ريتشارد ميشيل.
[15] انظر: إظهار الحق لرحمة الله الهندي، تحقيق عمر الدسوقي ص445، 446. نقلا عن: مبادئ في التقريب بين المذاهب الإسلامية للدكتور يوسف القرضاوي. طبعة مكتبة وهبة بالقاهرة.
[16] انظر: الجواب الصحيح لابن تيمية (2/295).
[17] انظر: الملحق الثاني من البحث، فقد أثبت فيه مقالا نفيسا ومهما في تاريخ التقريب بين المذاهب، وحوار علمي هادئ رصين دار بين العلامتين: محمد آل كاشف الغطاء، ومحمد رشيد رضا رحمهما الله.
[18] انظر: العلاقة بين السنة والشيعة للدكتور محمد سليم العوا ص 11.
[19] انظر: السلفيون والشيعة.. نحو علاقة أفضل للشيخ حسن موسى الصفار ص23-25. طعبة: مؤسسة العارف ـ بيروت. الثانية.
[20] انظر: حوار لا مواجهة للدكتور أحمد كمال أبو المجد ص 285. طبعة دار الشروق بالقاهرة.
[21] انظر: الحلية لأبي نعيم (6/3684).
[22] انظر: الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/69). نقلا عن: مدخل إلى ترشيد العمل الإسلامي للدكتور صلاح الصاوي ص 19.
[23] انظر: إحياء علوم الدين (2/324).
[24] انظر: شرح صحيح مسلم (2/32).
[25] انظر: شجرة المعارف والأحوال وصالح الأعمال والأقوال للعز بن عبد السلام ص 377. بعناية: حسان عبد المنان. طبعة بيت الأفكار الدولية.
[26] انظر: شجرة المعارف والأحوال وصالح الأعمال والأقوال للعز بن عبد السلام ص 380،379.
[27] انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (1/189) بتحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط. طبعة مؤسسة الرسالة.
[28] انظر: جامع العلوم والحكم: (2/254،255). طبعة مؤسسة الرسالة.
[29] انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (1/189).
[30] انظر: مجموع الفتاوى (30/79 ،80 ).
[31] المصدر السابق. نقلا عن الفصل الأخير من كتاب: (الغناء والموسيقى في ضوء الكتاب والسنة) للدكتور. يوسف القرضاوي. طبعة: مكتبة وهبة الأولى.
[32] متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[33] فيه نظر، فقد قال العلامة الحلبي في شرح الكبير (420) (وهو من الحنفية): فتكون شرعيته ـ أي شرعية قنوت النوازل ـ مستمرة، وهو محل قنوت من قنت من الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو مذهبنا ـ أي: الحنيفة ـ وعليه الجمهور وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي: إنما لا يقنت عندنا في صلاة الفجر من غير بلية، فإذا وقعت فتنة أو بلية، فلا بأس به، فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[34] انظر: زاد المعاد لابن القيم (1/275،274) بتحقيق الشيخين: شعيب وعبد القادر الأرناؤوط. طبعة مؤسسة الرسالة.
[35] انظر: رسائل اليوسي (2/524ـ527) نقلا عن: شرح مشكل الآثار للطحاوي بتحقيق الشيخ العلامة شعيب الأرناؤوط (3/164ـ167) والنقول من تعليقات الشيخ شعيب في الهوامش.
[36] انظر: مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب القسم الثالث الفتاوى ص 68. نقلا عن (مدخل إلى ترشيد العمل الإسلامي) للدكتور صلاح الصاوي ص 21.
[37] انظر: مجموعة الرسائل للإمام الشهيد حسن البنا ص 357. طبعة المؤسسة الإسلامية للطباعة ـ بيروت.
[38] نشر في مجلة (الإخوان المسلمين) النصف شهرية، في العدد الثاني من السنة الأولى، الصادر في يوم السبت الموافق غرة رمضان سنة 1361هـ ـ 12 من سبتمبر سنة 1942م.
[39] انظر: مجموع رسائل الإمام الشهيد حسن البنا ص 382.
[40] انظر: مجلة (المنار) المجلد ( 32) الجزء ( 3) الصادر في ذي القعدة سنة 1350 هـ ـ مارس 1932م.