القضاء هو مناط العدل، فلا يمكن تصور إقامة العدل أو دولة يمكن وصفها بالعادلة دون وجود سلطة قضائية عادلة ومستقلة تمام الاستقلال عن السلطة التنفيذية.
أصبحت العدالة بعد انقلاب الثالث من يوليو بعيدة المنال في ظل حكم اغتصب السلطة بانقلاب عسكري دموي، وزج بعشرات الألاف من المصريين في السجون لمجرد أنهم دعوا بالديمقراطية ونددوا بالانقلاب العسكري.
ذكرت تقارير حقوقية دولية أن مصر منذ الاستعراض الدوري الشامل لعام 2019، تقاعست عن تنفيذ التوصية الخاصة بضمان إجراءات قضائية عادلة ومنصفة ومستقلة. منذ 2017، استخدمت السلطات المصرية محاكم أمن الدولة طوارئ لمحاكمة المعارضين والخصوم السياسيين. وحتى بعد رفع حالة الطوارئ في 2021، تواصل المحاكم النظر في القضايا القائمة.
استمرت السلطات في محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية في مجموعة واسعة من القضايا. في 2024، وافق البرلمان على تعديلات (القانون رقم 3 لسنة 2024 وتعديلات القانون رقم 25 لسنة 1966) التي ترسّخ وتوسّع من سلطات الجيش الواسعة أصلًا على الحياة المدنية على نحو يقوّض الحقوق الأساسية.
كما منعت السلطات بشكل روتيني ممثلي المجتمع المدني ووسائل الإعلام والسفارات الأجنبية وأفراد أسرهم من حضور جلسات المحاكمة وجلسات تجديد الاحتجاز ما قبل المحاكمة. وذكرت جماعات حقوق الإنسان أن المعتقليين السياسيين يُحرمون بانتظام من الاتصال بالمحامين. كما وثقت منظمات حقوقية حدوث انتهاكات روتينية للإجراءات القانونية الواجبة أثناء المحاكمات، حيث لم يُسمح للمعتقلين باستدعاء الشهود أو استجوابهم أو تقديم الأدلة، كما يقتضي القانون.
ووفقًا لمنظمات حقوق الإنسان، واجه المعتقلين في بعض الأحيان صعوبات في الحصول على معلومات كافية بشأن الاتهامات الموجهة إليهم في قضيتهم، والتأخير الطويل قبل بدء المحاكمة، وجلسات الاستماع الشكلية التي تحد من قدرتهم على تقديم دفاع فعال، والتواصل المحدود مع محاميهم أثناء وجودهم في المحكمة وأثناء الاحتجاز. وقد أشار المراقبون القانونيون ومنظمات حقوق الإنسان إلى أن السلطات منعت في بعض الأحيان المحامين من الوصول إلى موكليهم المحتجزين، ولم توفر لهم دائماً الوصول المطلوب إلى الأدلة وملفات القضايا قبل بدء الإجراءات.
استمرت السلطات في البلاد في محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية بالرغم من أن الدستور ينص على أنه لا يجوز محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية إلا في جرائم محددة مرتبطة بالجيش. كما استمر عدد من قضايا الأمن القومي أمام المحاكم العسكرية بموجب نظام محاكم الطوارئ التي تم إنشاؤها خلال حالة الطوارئ التي انتهت في أكتوبر 2021. ولم ينص القانون على استئناف أحكام محاكم الطوارئ، ولا يمكن التصديق عليها أو إلغائها، أو تعديل الأحكام، أو الأمر بإعادة المحاكمة، إلا لرئيس الجمهورية أو من يفوضه. وكانت المعلومات المتاحة محدودة فيما يتعلق بالمحاكمات العسكرية، التي كان من الصعب مراقبتها لأن السلطات عادة ما تُخضع وسائل الإعلام لأوامر تقييدية. وذكرت منظمات حقوقية ومحامون أن محامي الدفاع في المحاكمات العسكرية واجهوا صعوبة في الوصول إلى موكليهم والحصول على الوثائق المتعلقة بالقضايا.
في عام 2025، شهدت مصر تصاعدًا غير مسبوق في المحاكمات الجماعية السياسية، حيث أطلقت السلطات أكبر موجة من المحاكمات السياسية منذ سنوات، مع إحالة ما لا يقل عن 186 قضية إلى محاكم الإرهاب تضم أكثر من ستة آلاف متهم، بينهم أطفال وأشخاص محبوسون احتياطيًا بنسبة تزيد على نصفهم.
وثقت منظمات حقوقية منها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية إحالة نيابة أمن الدولة أفرادًا بالاتهامات نفسها للمحاكمة أثناء أو بعد قضائهم عقوبات قضائية، وهو ما يعتبر أمر غير قانوني يخالف نص قانون الإجراءات الجنائية الذي يحظر معاقبة الشخص على الفعل نفسه مرتين.
إلا أن هذه ليست المشكلة الأساسية؛ بل المشكلة في الأسئلة التي يطرحها هذا النمط من الإحالات، والذي يشكك بوضوح في مدى فاعلية نظام “الإصلاح والتأهيل” المصري، ومدى قيام وزارة الداخلية ممثلة في مصلحة السجون بدورها، حيث أن اتهام أشخاص على ذمة قضايا ظهرت أثناء احتجازهم ووجودهم في عهدة وزارة الداخلية إما يعني أن الداخلية تسمح بارتكاب جرائم تحت نظرها في أماكن الاحتجاز، أو أن تحريات الأمن الوطني بشأن المحتجزين المعزولين عن العالم الخارجي لسنوات يشوبها التلفيق.
تضم قائمة المحالين للمحاكمة عددًا من الأفراد الذين سبق وصدرت ضدهم أحكام غير قابلة للطعن عليها من محاكم أمن الدولة طوارئ، إلا أن نيابة أمن الدولة عادت وأحالتهم للمحاكمة من جديد على ذمة قضايا مشابهة.
القضايا تشمل اتهامات بالإرهاب، الانضمام لجماعات محظورة، إعادة هيكلة لجان تنظيمية لجماعة الإخوان المسلمين، وأحداث شغب وغيرها من التهم السياسية التي توجه للمعارضين والنشطاء. من بين المتهمين شخصيات بارزة مثل أحمد أبو الفتوح، نجلا حسن الهضيبي، والداعية السلفي محمود شعبان، حيث مثلوا أمام محاكم أمن الدولة العليا طوارئ في جلسات منفصلة في يونيو 2025، مع إنكارهم للاتهامات واعتبارها سياسية.
وفي الفترة من 21 إلى 26 يونيو 2025 رصدت المنظمات الحقوقية نظر 34 قضية بما يشكل محاكمات جماعية الهدف منها الانتقام من المعارضين السياسيين
انتهاكات وضمانات المحاكمات
- المحاكمات تفتقر إلى الحد الأدنى من ضمانات المحاكمة العادلة، حيث لم يتم السماح للدفاع بالاطلاع على ملفات القضايا في الغالبية العظمى منها، ولم تُصدر دوائر الإرهاب قرارات بإخلاء سبيل المحتجزين احتياطيًا، مما يثير مخاوف كبيرة حول عدالة هذه المحاكمات.
- استخدام نظام المحاكمة عن بُعد عبر الفيديوكونفرنس في بعض الحالات يقوّض حق المتهمين في الدفاع، ويمنع القاضي من تقييم شرعية الحبس وظروفه، كما يحرم المتهمين من مواجهة الشهود والاستعانة بمحامين بشكل فعال.
- المحاكمات تتم غالبًا في مجمع محاكم بدر، وهو مجمع سجون، ما يضيف إلى الطابع الاستثنائي والضغط على المتهمين.
- المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية تدعو إلى الإفراج عن جميع السجناء السياسيين المحتجزين على ذمة هذه القضايا، وضمان حضور منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام لجلسات المحاكمات لضمان الشفافية والمساءلة.
الخاتمة
تُظهر المحاكمات الجماعية السياسية في مصر خلال 2025 تصاعدًا حادًا في استخدام القضاء كأداة لقمع المعارضة السياسية، مع تجاهل واضح لضمانات المحاكمة العادلة وحقوق الدفاع. وتُعد هذه المحاكمات الأكبر من نوعها منذ سنوات، وتثير قلقًا حقوقيًا واسعًا بسبب العدد الكبير للمتهمين وطبيعة الاتهامات السياسية، إضافة إلى استمرار الحبس الاحتياطي لفترات طويلة وإعادة تدوير القضايا ضد نفس الأشخاص. هذا الوضع يعكس توجهًا أمنيًا واستبداديًا في التعامل مع المعارضة السياسية داخل مصر، مع غياب الإصلاحات القضائية الحقيقية.
باختصار، عام 2025 في مصر تميز بموجة واسعة من المحاكمات الجماعية السياسية التي شملت آلاف المتهمين في قضايا ذات طابع أمني وسياسي، مع انتهاكات جسيمة لحقوق المتهمين وغياب ضمانات المحاكمة العادلة، مما يفاقم الأزمة الحقوقية والسياسية في البلاد.