تقدير موقف

قامت الولايات المتحدة الأمريكية ببدء أول عملية عسكرية خارجية في عهد الرئيس الامريكي دونالد ترامب في 15 مارس 2025 من خلال شن ضربات جوية ضد جبهة جماعة أنصار الله الحوثي في اليمن، وهذه العملية العسكرية تعد عملية مركبة من حيث تنوع أهدافها العسكرية والاقتصادية والسياسية.
تصعيد متبادل من الطرفين:
منذ بدء الضربات الجوية الأمريكية ضد جماعة أنصار الله والتصعيد متبادل بينهما ومستمر حتى كتابة سطور هذا التقرير، فالولايات المتحدة تستهدف مواقع تقليدية بالنسبة لجماعة الحوثي مثل الرادارات ومنصات إطلاق الصواريخ والطائرات بدون طيار ومراكز التدريب وكذلك مواقع مستحدثة مثل شبكات أنفاق تستخدمها الجماعة لتخزين ذخائر ومعدات عسكرية لوجستية ومنصات متحركة لإطلاق الطائرات المسيرة وكذلك مواقع يعتقد انه يتواجد بها -طبقا للمعلومات الاستخباراتية- شخصيات حوثية قيادية من الصفوف الاولى العسكرية والسياسية.
تقلع المقاتلات المنفذة للضربات الجوية من حاملة الطائرات “هاري إس ترومان”، المتمركزة في البحر الأحمر، بالإضافة إلى مقاتلات وطائرات مسيرات انطلقت من قواعد أمريكية في دول إقليمية بالشرق الأوسط.
في هذه العملية تم تنفيذ هجمات امريكية تعد هي الأولى من نوعها، حيث استهدفت الغارات الجوية شخصيات قيادية في جماعة الحوثي، من بينهم على سبيل المثال “حسن عبد القادر شرف الدين”، المسؤول المالي لتجارة النفط والغاز لدى الحوثيين، و “علي فاضل”، أحد قيادات العمليات البحرية، و“عبد الملك الشرفي” من القيادات في جهاز المخابرات وكذلك ما تردد عن محاولة استهداف عبد الملك الحوثي زعيم جماعة أنصار الله.
إن الضربات الجوية الأمريكية المكثفة والنوعية تجعل هذه العملية العسكرية تمثل تصعيدا كبيرا مقارنة بالعمليات الامريكية السابقة ضد جبهة الحوثي اليمنية، بالإضافة الى ان بنك الأهداف أصبح مختلفا من ناحية نوعية الاهداف وعددها.
وعن سقف الرد العسكري الحوثي أعلنت الجماعة عن استهداف واشتباك متكرر شبه يومي منذ بدء العملية العسكرية لحاملة الطائرات الأميركية “هاري ترومان” بالصواريخ والطائرات بدون طيار بالإضافة إلى استهداف مواقع داخل عمق اسرائيل بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة كإسناد مستمر للشعب الفلسطيني المقاوم في قطاع غزة.
الأهداف الأمريكية المعلنة والرسائل السياسية
الهدف الرسمي المعلن للضربات الأمريكية في اليمن هو حماية حرية الملاحة في البحر الأحمر من هجمات جماعة أنصار الله، نظرا لما يمثله مضيق باب المندب من اهمية كممر مائي حيوي للتجارة العالمية وتدفق شحنات البترول والطاقة.
تتماشى هذه الضربات أيضًا مع الأهداف الاستراتيجية الأوسع للولايات المتحدة كمنع إيران من امتلاك أسلحة نووية وتحجيم دورها الاقليمي، والحد من النفوذ المتزايد للصين وروسيا في هذه المنطقة الاستراتيجية الهامة وضمان أمن حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الاوسط.
تقدير الموقف
نقدم في النقاط التالية تقدير موقف لمسار العملية العسكرية الأمريكية في عهد إدارة ترامب والمستمرة ضد جماعة أنصار الله، ومدى قدرة الولايات المتحدة على تحقيق اهدافها العسكرية والاستراتيجية المرجوة من هذه العملية على الجبهة اليمنية.
(١) تحولت جماعة أنصار الله من طرف صراع في قضية محلية ذات تأثير اقليمي، إلى قضية عالمية بعد تدخلهم الفاعل وموقفهم الصلب المؤثر في مسرح عمليات الشرق الأوسط وذلك منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بعد عملية طوفان الأقصى.
(٢) العملية العسكرية الامريكية تمثل رد فعل متوقع من أجل إنهاء تأثير نفوذ جبهة الحوثي مع اهداف إسرائيل في حماية امنها بعد استباحة الجماعة لعمقها الاستراتيجي وقدرتها على قصف تل أبيب وكذلك الرغبة العميقة -غير المعلنة- لدى دول التحالف العربي وخاصة المملكة العربية السعودية والامارات في القضاء على قدرات الحوثيين العسكرية.
(٣) الضربات الأمريكية منذ بدايتها حملت أيضًا رسائل ردع موجهة إلى إيران، كوسيلة ضغط لإعادتها إلى طاولة المفاوضات بشأن برنامجها النووي وهو ما حدث بالفعل في 12 ابريل 2025 في مسقط كمباحثات غير مباشرة بين الطرفين برعاية سلطنة عمان.
(٤) تهدف الولايات المتحدة وحلفاؤها منذ بداية العملية الى فصل دعم إيران عن جبهة الحوثي في مقاربة من إدارة ترامب اتجاه إيران نحو التوصل لصفقة شاملة معها، وانتظار تجاوب إيران تحت قيادة الفريق الإصلاحي بقيادة الرئيس” مسعود بزشكيان”، حيث سيكون التوجه الأمريكي نحو نسخة إيرانية محدثة بلا ميليشيات ولا وحدة للساحات أو وحدة الجبهات ومحور المقاومة.
(٥) الحاضنة الشعبية وتطور القدرات الحوثية
طورت الحركة في السنوات الأخيرة قدراتها العسكرية كثيرًا من خلال الدعم الإيراني وكذلك الدعم الروسي والصيني غير المباشر، واستطاعت من بناء وتطوير ترسانة صواريخ تقليدية وكذلك تطوير نماذج طائرات مسيرة متعددة الاستخدام وهو ما برز بصورة ملفتة في قدرتهم على إحداث فارق في صراع الشرق الاوسط من خلال عملياتهم المؤثرة سواء ضد اسرائيل أو في البحر الأحمر.
كذلك ازدادت قدراتهم البشرية النظامية من حيث التعداد والقدرات، فمنذ تدخلهم المباشر في صراع الشرق الأوسط ازدادت صلابة الالتفاف الشعبي حول الحركة من منطلق دعمهم القوي للشعب الفلسطيني ضد الاحتلال وكذلك توسع تأثير الحركة الإقليمي والدولي.
ودلالة على ذلك نجد ان تقدير عدد مقاتلي حركة الحوثي ارتفع من 220,000 مقاتل في عام 2022 إلى حوالي 350,000 مقاتل في أواخر عام 2024، وأصبح لديهم القدرة على ضرب أهداف بعيدة المدى تغطي كامل البحر الأحمر وصولًا إلى عمق إسرائيل الإستراتيجي باستخدام الصواريخ والطائرات المسيرة.
(٦) هذه المؤشرات من ناحية التسليح والقدرات البشرية النظامية والحاضنة الشعبية وكذلك صعوبة تضاريس مسرح العمليات تظهر بوضوح مدى صعوبة القضاء على حركة الحوثي بعملية عسكرية امريكية تقوم على الضربات الجوية فقط مهما كان حجم قوة الضربات واستمراريتها.
(٧) فضيحة تطبيق سيغنال
ابرزت فضيحة “سيغنال غيت” التي حدثت في 11 مارس 2025 مدى تهور وضعف احترافية فريق دونالد ترامب، حيث جرى الحديث من أعلى مستوى في الإدارة الامريكية عن الضربات الجوية ضد جماعة الحوثيين في اليمن عبر تطبيق تجاري للمحادثات وهي واقعة تمثل سقطة تاريخية بالنسبة للأداء السياسي والعسكري للولايات المتحدة الامريكية والصورة الذهنية لها كقوة عظمى.
حيث إن المحادثة – التي يفترض أنها بدرجة سرية للغاية أو محظور في تدرج سرية المعلومات العسكرية عالميًا – وجرت على تطبيق “سيغنال”، ضمت أعلى المسؤولين رفيعي المستوى في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب منهم مستشار الأمن القومي مايكل والتز، ووزير الدفاع بيت هيغسيث، وجيه دي فانس نائب الرئيس لكن الفضيحة مثلت إختراقا كبيرا للغاية للأمن المعلوماتي عندما أضيف رئيس تحرير مجلة “ذي أتلانتيك” جيفري غولدبير للمحادثة بين أعضاء الفريق الرئاسي الأمريكي.
بعد أن أرسلت إدارة ترامب عن غير قصد خططها الحربية إلى رئيس تحرير المجلة، كان على الجميع في أنحاء العالم – بما في ذلك رؤساء الدول وعملاء المخابرات وكذلك القادة العسكريون الامريكيون، بل والطيارون المقاتلون أنفسهم الذين يقومون بتنفيذ الضربات الجوية – أن يتساءلوا عما إذا كانت أسرارهم آمنة مع الحكومة الأمريكية الحالية.
(٨) تحدثت تقارير اممية ومعلوماتية متواترة عن تعاون بين حركة أنصار الله وحركة الشباب في الصومال منذ اواخر العام 2024 – وهو ما اشار له ترامب بنفسه في 13 ابريل 2025 من خلال حسابه الشخصي عبر منصتة تروث سوشيال – وهذا التطور يشير إلى تمدد الحوثيين وتطلعهم الى تكوين تحالفات عسكرية في منطقة القرن الافريقي للحصول على مزيد من قدرة التأثير على حركة الملاحة في البحر الاحمر عبر محاولة زيادة السيطرة على ضفتي خليج عدن ومضيق باب المندب أحد اهم الممرات المائية الدولية.
(٩) هناك توجه لم تتشكل ملامحه بالكامل بعد نحو دعم امريكي لفصائل يمنية بتمويل اماراتي لشن هجوم بري واسع النطاق ضد الحوثيين، مستفيدة في ذلك من الضربات الجوية الأميركية ضد البنية العسكرية للجماعة.
خيار التدخل البري إن تم سيستهدف مناطق على الساحل الغربي لليمن خاصة ميناء الحديدة، في محاولة لتوجيه ضربة مؤثرة للحوثيين عبر قطع شريانهم الاقتصادي الحيوي
وبالنسبة للمملكة العربية السعودية سيكون توجهها حذر للغاية نحو دعم اي عملية برية محتملة بغطاء جوي امريكي ضد الحوثيين، خشية من تجدد هجماتهم بالصواريخ والطائرات المسيرة على اهداف حيوية في عمقها الإستراتيجي مثل المطارات ومصافي النفط.
(١٠) حاولت أمريكا جاهدة منذ بداية العملية العسكرية تكرار سيناريو حزب الله اللبناني باغتيال القادة الروحيين خاصة زعيم الحوثيين عبد الملك بدر الدين الحوثي، وكذلك السياسيين البارزين، والعسكريين من الصف الأول لحركة “أنصار الله”، عبر تكثيف الغارات المتكررة خاصة الليلة على مديرية الصفراء في محافظة صعدة التي تعتبر أهم معاقل الحوثيين
وهو لم يتحقق حتى الآن وإحتمال الوصول إلى قادة “أنصار الله” واغتيالهم يبدو ضعيفًا، لأن هؤلاء محاطين بحاضنة شعبية صلبة والعقيدة القتالية لقواتهم راسخة، بالإضافة إلى عامل الانتماء القبلي مما جعل حالات الاختراق المخابراتي لا يمكن مقارنتها بنموذج حزب الله أو حتى إيران، ومعظم القادة خلال العمليات يتحركون ويتحصنون في الكهوف والوديان وسط الجبال مستفيدين في ذلك من الطبيعة الوعرة لليمن.
الخاتمة
من المؤكد من ناحية التقدير العسكري أن الضربات الجوية الأمريكية لن تنجح في ردع او انهاء الحوثيين على المدى المنظور كهدف استراتيجي معلن لإدارة ترامب وهو ما قد يشكك في فعالية التفوق الجوي الأميركي باعتباره أداة للردع قادرة على تغيير توازن القوى اليمني. ويبقى هناك احتمالية للتدخل البري عبر وكلاء يمنيين –الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا- وبتمويل إماراتي كمحاولة لحفظ ماء وجه الإدارة الامريكية الحالية، ويظل تقدير نجاح هذه العملية البرية في القضاء على الحوثيين ضعيفاً للغاية طبقاً لما ذكرناه في تقدير الموقف، مع التأكيد على أن الولايات المتحدة ستكتفي بالضربات الجوية – التي لن تحسم الحرب ضد جماعة أنصار الله – ولن تتدخل أبداً بقواتها البرية في مسرح العمليات اليمني بتضاريسه الخشنة وطبيعته الوعرة حيث أن خسائر القوات الأممية والأمريكية في الصومال ثم انسحابها بعد تدخلها في القرن الأفريقي في تسعينيات القرن الماضي ما زالت عالقة في ذاكرة التاريخ العسكري الحديث.