في انتظار وصول ترامب.. التفاوض بالصواريخ بين روسيا والغرب
منذ تفكك الاتحاد السوفييتي في 26 ديسمبر “كانون الأول” عام 1991، وأوكرانيا لم تخلو من تجاذبات القوى العالمية الكبرى وطموحاتها الاستراتيجية فهناك الهدف الأمريكي الأوروبي المشترك لدمجها في المنظومة الأوروبية الحديثة وحلف الناتو، والهدف الروسي الذي يسعى للتوسع ويرى في أرض أوكرانيا جزءا من روسيا التاريخية أهمية جيوستراتيجية لا تنازل عنها
حدث تطور نوعي واضح في المراحل الاخيرة من الصراع الروسي الأوكراني الحالي والمستمر منذ 24 فبراير “شباط” 2022، برز هذا خاصة في استخدام الصواريخ الباليستية من كلا الطرفين وكذلك في الأهداف من هذا الاستخدام كالحرب النفسية ورسائل الردع
نستعرض في هذا التقرير هذه التطورات النوعية المتبادلة والأهداف المرجوة من كلا الطرفين الروسي والأوكراني
بداية هذه التطورات كان تزويد واشنطن لكييف “بألغام ارضية” بهدف وقف تقدم أفراد القوات البرية للجيش الروسي وهذا القرار الأمريكي لم يجد رفض روسي حاد وحسب، بل أيضا من منظمات “الحد من انتشار السلاح” عبر العالم، والتي طالبت بالتزام الولايات المتحدة بنصوص معاهدة “حظر إنتاج واستخدام الألغام المضادة للأفراد”، وهي المعاهدة التي تم الاتفاق عليها في عام 1966، حيث انه تتسبب هذه الألغام في “القتل العشوائي” حتى بعد انتهاء الحروب
ثم بعد ذلك جاء موافقة الولايات المتحدة لأوكرانيا باستخدام الصواريخ الأمريكية من طراز “اتاكمز” للتمكن من إصابة أهداف داخل العمق الاستراتيجي الروسي، وبعد ذلك جاء موافقة بريطانيا ايضا لأوكرانيا باستخدام الصواريخ “ستورم شادو” لنفس الغرض
هذه الخطوات وجدت أيضا انتقادات من دوائر أمريكية مقربة من إدارة الرئيس الأمريكي القادم دونالد ترامب، ووصفت بأنها تهدف إلى عرقلة مبكرة لمساعي الإدارة الأمريكية الجديدة لوقف الحرب الروسية الأوكرانية
وبالفعل بعد فك التقييد الأمريكي أطلق الجيش الأوكراني حوالي 8 صواريخ على منطقة مستودعات للذخيرة داخل الأراضي الروسية على بعد 80 ميل من الحدود الأوكرانية الروسية
ثم أطلقت أوكرانيا على مركز قيادة روسي على بعد أكثر من 25 ميلا داخل روسيا 12 صاروخ طراز ستورم شادو ومع ذلك كانت بريطانيا غير راغبة في تأكيد تغيير سياستها، ربما حرصا على عدم إثارة غضب موسكو، حتى نشر مدون عسكري روسي صورا تظهر قطع صاروخية متناثرة على أرض الموقع المستهدف تحمل اسم “ستورم شادو” فتأكد فك بريطانيا لحظر الاستخدام
بالإضافة الى استنتاج روسيا المعلن بأن هناك دلائل واضحة على مساعدة الولايات المتحدة لأوكرانيا في استخدام هذه الصواريخ في قصف أهداف داخل العمق الروسي عبر التوجيه بالأقمار الصناعية، لأن التقديرات الروسية تفيد بأن الصواريخ أتاكمز ، و ستورم شادو تعتمد على “توجيه” دقيق من الأقمار الصناعية، وهي إمكانات تقنية لا تمتلكها أوكرانيا، وهذا ما اعتبرته روسيا تدخل أمريكي مباشر ويعتبر مشاركة في استهداف العمق الروسي
تطورات مسار العمليات تحت ظلال شجرة البندق
بعد استخدام أوكرانيا الفعلي للصواريخ الأمريكية والبريطانية ضد أهداف داخل عمق روسيا لم يهدر سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي، الكثير من الوقت في الإعلان عن الوعد برد “مناسب” ثم خلال ساعات من الترقب تم إغلاق الولايات المتحدة لسفارتها في كييف بشكل مفاجئ بعد تحذير من “هجوم صاروخي محتمل”على أوكرانيا.
وعندما حدث الهجوم الصاروخي بالفعل، كان الأمر مفاجأة ليس لأوكرانيا فقط بل لجميع الدول الغربية الحليفة لها، فقد استخدمت روسيا في 21 نوفمبر تشرين الثاني 2024 صاروخا جديدا فرط صوتي اسمه اوريشنيك “شجرة البندق” قادرا على حمل رؤوس نووية ويقدر مداه بنحو 3500 ميل لاستهداف مصنع بفدنماش في مدينة دنيبرو الأوكرانية على مسافة قصيرة نسبيا لمثل استخدام هذا السلاح وهي حوالي 500 ميل فقط حيث أطلق الصاروخ من مقاطعة استراخان الروسية.
فمثل هذا الصاروخ مكلف للغاية بحيث لا يمكن تبرير استخدامه على هذه المسافة القصيرة نسبيا وعلى هدف ليس ذو أهمية استراتيجية كبيرة للغاية، ولكن عندما ظهر فلاديمير بوتين بشكل غير مقرر مسبقا ليلقي خطابا على شاشة التلفزيون الروسي يستعرض فيه مفتخرا بقدرات شجرة البندق، أثبت أن غرض إطلاق الصاروخ هو سياسي بامتياز وهو حدث سياسي روسي فارق في مسار الحرب بما يمكن تسميته اصطلاحا بالدبلوماسية الصاروخية.
فرسالة الكرملين الواضحة بهذا الاستخدام لصاروخ شجرة البندق هو إقناع ترامب بأن مساعدة أوكرانيا مستقبلا بشكل كبير ومباشر مثلما حدث من الإدارة الامريكية الحالية من خلال التطورات الأخيرة في استخدام الصواريخ الغربية المتطورة بواسطة الجانب الأوكراني ستكون ردود روسيا مكلفة للغاية بالنسبة للغرب ايضا وليس لأوكرانيا فقط.
الخلاصة من رسائل شجرة البندق
1- سرعة رد روسيا على الخطوات الأمريكية والأوروبية من خلال إطلاق أحدث الصواريخ البالستية الروسية الفرط الصوتية، وهو الصاروخ الذي تزيد سرعته عن 10 ماخ اي 12300 كم في الساعة، وبمدى يصل الى 5500 كم، وهي رسالة مفادها أن كل الأراضي الأوكرانية، وكل العواصم الأوروبية ومنها لندن وباريس وبرلين، في مرمى صاروخ أوريشنيك (شجرة البندق) .
2- هناك رسالة أيضا في ال 30 دقيقة إبلاغ قبل الاطلاق وهى تطبيق لما تتحدث روسيا عنه أن ردها سيكون متناسبًا مع أي خطوة استفزازية من واشنطن وحلفائها في “الناتو”، وهدف روسيا في ذلك هو عدم التصعيد العشوائي من الطرفين في مسرح العمليات.
ولذلك أبلغت موسكو الجانب الأمريكي قبل إطلاق الصاروخ بـ30 دقيقة، وذلك من خلال المركز الوطني للحد من المخاطر النووية، حسبما أعلن عن ذلك الكرملين وكما اعلن البنتاغون أيضا كتثمين غير معلن للتصعيد العقلاني بالابلاغ للجانب الأمريكي من الجانب الروسي بما هو متبع في توازنات القوى العظمى.
3- وايضا تفتح رسالة إبلاغ واشنطن قبل اطلاق شجرة البندق مجالا للجهود الدبلوماسية المستقبلية المتوقعة لوقف الحرب.
حيث علق المتحدث باسم الكرملين، تأكيدا لهذا الموقف بقوله: “أُرسِل التحذير في الوضع التلقائي الدائم قبل 30 دقيقة من الإطلاق”، وهو ما يقول للعالم بوضوح إن هناك نية روسية جادة لوقف الحرب وعدم التصعيد خلال الفترة المقبلة، وهو أمر يمكن أن يفتح “نافذة للدبلوماسية”، وهي رسالة للرئيس الأمريكي المنتخب يمكن أن يعمل بها أو يتكئ عليها في مساعيه المقبلة لوقف الحرب
4- الرسالة التي وصلت إلى أوكرانيا والدول التي تقدم المساعدات العسكرية لها، أن تزويد أوكرانيا بصواريخ دقيقة، مثل “ستورم شادو” و”أتاكمز” لن تغير مسار العمليات لصالح الجيش الأوكراني، وأنه لا يمكن لأي سلاح أمريكي أو غربي جديد أن “يقلب الطاولة” على روسيا
5- رسالة إلى ترامب
أوضح الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية أن رؤيته لوقف الحرب الروسية الأوكرانية تقوم على “الاعتماد على القوة التي تخدم السلام”، بحيث إنه سوف يزود أوكرانيا بأسلحة “أكثر تطورا” لو رفض الروس رؤيته لإيقاف الحرب، كما أنه سوف يتوقف عن إرسال السلاح لأوكرانيا إذا رفضت كييف خطته.
لكن الصاروخ “أوريشنيك” يقول بوضوح لترامب ولحلف الناتو إن موسكو تريد رؤية وخطة لوقف الحرب تأخذ في تقديراتها مصالح روسيا والوقائع الجديدة على الأرض.
5- فشل منظومات الدفاع الجوي الغربية في ايقاف اوريشينك
بعد اصابة الصاروخ الروسي الجديد لهدفه في العمق الأوكراني كان من الملفت أن روسيا أعلنت كل شىء يتعلق بالصاروخ “أوريشنيك”، كما أن الرئيس بوتين بنفسه أعلن العمل فورا على زيادة معدل تصنيع شجرة البندق، وهذا يؤكد ان روسيا مطمئنة تماما بأنه لا يوجد أي منظومة دفاع جوي أمريكية أو غربية يمكنها أن توقف أو تسقط صاروخا بقدرات أوريشنيك
5- الردع الاستراتيجي النووي
يتيح صاروخ “أوريشنيك” لروسيا مزيدًا من “القدرة على الردع” ، حيث أن صاروخ “شجرة البندق” يستطيع حمل “رؤوس نووية” بجانب الرؤوس التقليدية، وهذا يمثل جيل حديث من الصواريخ ذو قدرات إستراتيجية جديدة لروسيا لم تتحدث عنها دوائر استخبارات الدول الغربية من قبل.
وهو ما يرسل رسالة واضحة إن محاولة استهداف المدن الروسية الهامة مثل موسكو أو سانت بطرسبورغ، بصواريخ أتاكمز وستورم شادو، يمكن أن تواجه بضربات نووية روسية الى عواصم الدول الأوروبية، خاصة بعد أن قال الرئيس بوتين أكثر من مرة إن الهجوم التقليدي الأوكراني على روسيا بأسلحة من “دولة نووية” يبرر لروسيا استخدام السلاح النووي وفق التعديلات الأخيرة على العقيدة النووية الروسية
6- التصريحات الروسية تشير إلى أن مفهوم البحث عن السلام بالتفاوض لم يعد مرتبطا بالمفاوضات التقليدية، بل بات التفاوض علانية تحت أدوات السيطرة العسكرية والقدرة على الردع حتى ولو خروجا على المواثيق والمعاهدات وحدود الدول المعترف بها، وهذا ما يبرز تحولا حادا في مفهوم الشرعية الدولية، حيث تفرض الشروط من خلال الأمر الواقع المكتسب بالقوة العسكرية بدلا من توافق المجتمع الدولي..
7- مجمل ما حمله صاروخ “شجرة البندق” من رسائل أكد صعوبة هزيمة روسيا وأن إرسال مزيد من السلاح النوعي الى أوكرانيا لن يحقق النصر لأوكرانيا، وان استمرار هذه الحرب هو إهدار للموارد ومد أمد أزمة عالمية ذات آثار سلبية بلا أفق واضح لحسمها وهو ما قد يدفع العقلاء في كلا الجانبين وحلفاءهم إلى البحث عن مقاربة منطقية قد تعطى الامل من جديد للدبلوماسية لإيقاف الحرب.
الخاتمة
وأخيرا إن أحد الأزمات العالمية الحالية والمتمثلة في الحرب الروسية الأوكرانية تظهر بوضوح أن المنظومة الدولية التي وضعت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أصبحت منظومة شائخة ، حيث تبرز تطورات هذه الحرب وموازينها هذا التحول من نظام عالمي يعتمد على القانون الدولي والمؤسسات الاممية إلى نظام عالمي يعيد تشكيل الحدود وحقوق الشعوب وفقا للسيطرة على الأرض بالأمر الواقع ورسائل التفاوض بتبادل الصواريخ الفرط صوتية وقدرة الردع النووي.