قراءة في رسالة بيل كلينتون لمبارك عام 2000- تحليل لهذه السياسة
وفق ما نُشر من نص رسالة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون إلى الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك كما وردت في مذكرات الرئيس الأمريكي. أرسل كلينتون الرسالة في الأول من أغسطس عام 2000 وجاء في الرسالة:
” عزيزي حسني: أكتب لك هذه الرسالة بخط اليد على قرطاسية البيت الأبيض لأنها رسالة شخصية من صديق. حسني، يجب أن أبلغك بمدى خيبة الأمل التي أصابتني أنا وجميع مساعدي في السياسة الخارجية بسبب سلوكك خلال قمة كامب ديفيد. سأكون صريحًا معك، أنت تتزلج هنا على الجليد الرقيق. إن عدد الأشخاص في فريقي للسياسة الخارجية، أو في الكونجرس، الذين لديهم كلمة طيبة يقولونها عنك أو عن مصر اليوم يمكن إحصاؤهم على أصابع اليد الواحدة، وربما ولا على يد واحدة أصلا. المزيد والمزيد من الناس يسألونني: ما الذي نحققه بالضبط من علاقتنا مع مصر – ناهيك عن ثلاثين مليار دولار من المساعدات التي قدمناها لمصر منذ عام 1978؟
دعنا نعيد النظر فيما حدث قبل القمة. لقد اتصلت بكم وطلبت دعمكم وقلتم إنكم ستحاولون تقديم المساعدة، ثم، في منتصف كامب ديفيد، بينما كنت في قمة مجموعة الثماني في أوكيناوا، اتصلت بكم، وبالعاهل الأردني الملك عبد الله، وولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير عبد الله، والرئيس بن علي رئيس تونس، وطلبت مساعدتكم وقلت إن القمة متوقفة كليًا والمشكلة الكبرى هي القدس. قلت لك إنني لم أتوقع منك أن تجبر عرفات على التنازل عن القدس وأنا أعلم مدى أهمية المدينة بالنسبة للعالم الإسلامي بل كنت بحاجة لمساعدتكم لإقناع عرفات بتأجيل قضية القدس – التي من الواضح أننا لن نحلها – ومحاولة التوصل إلى اتفاق بشأن جميع القضايا الأخرى، وهو أمر ممكن. حاول العاهل الأردني الملك عبد الله المساعدة بينما سافرت أنت إلى المملكة العربية السعودية وانضممت إلى السعوديين في حث الفلسطينيين على عدم تقديم أي تنازلات بشأن القدس. حسنا، شكرا جزيلا على ما قمت به. لم أطلب منك أن تلوي ذراع عرفات على القدس بل كنت أطلب منك أن تغطي ظهره، بينما هو يؤجل هذه المسألة، ولكن بدلاً من أن تجعل هذا القرار أسهل بالنسبة لعرفات، جعلته أكثر صعوبة. هذا ليس السبب الوحيد الذي يجعلنا نفقد صبرنا معك. من أين أبدأ؟ لقد قمت للتو بإلقاء القبض على سعد الدين إبراهيم، المتخصص في الديمقراطية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة والذي يحمل جواز سفر أمريكي ويبدو أن جريمته هي أنه كان يعمل من أجل انتخابات ديمقراطية في مصر. أقول “يبدو” بما أنك تحتجزه دون اتهامات بينما تقوم صحافتك بتلطيخ اسمه (يبدو أن صحافتك حرة فقط في بث الكراهية ضد إسرائيل أو نشر نظريات المؤامرة حول الولايات المتحدة). خلال تسعة عشر عامًا من توليك رئاسة لمصر، لم تقم بزيارة إسرائيل مطلقًا، باستثناء جنازة إسحاق رابين، وقد تم إعادة انتخابك للتو في انتخابات الرجل الواحد بنسبة 94% من الأصوات. النسبة ليست جيدة بالمقارنة مع ما اعتاد حافظ الأسد الحصول عليه في مثل هذه الانتخابات لكنها قريبة من نتائجه. لقد بدأت أدرك يا حسني أن إسرائيل تمثل بالنسبة لمصر ما يمثله النفط بالنسبة للمملكة العربية السعودية – وهو عامل تشويه هائل، ومنذ كامب ديفيد، نحكم على مصر في الولايات المتحدة وفق مقياس واحد فقط: كم انت لطيف مع إسرائيل، وطالما لم تكن معادياً تماماً، فقد قدمنا لك الأعذار وغضضنا الطرف عن فساد نظامك وانعدام الديمقراطية. بقيامنا بذلك، لم نقدم لك أي معروف. لقد قلت لي مرات عدة أن إيهود باراك قد يكون خائفا على حياته، ولهذا السبب لم يكن أكثر استعدادا لتقديم تنازلات خلال المفاوضات، والحقيقة أنه أظهر شجاعة ملحوظة في كامب ديفيد، وقد يكلفه ذلك وظيفته. يجب أن تكون شجاعًا جدًا مثله. أنت تقول لنا دائمًا أن الشارع المصري لن يسمح لك بفعل هذا الشيء أو ذاك، أو أنه إذا حدث لك أي شيء، فسنضطر إلى التعامل مع الأصوليين الإسلاميين.. حسنًا، هل سبق لك أن حاولت أن تقود شارعك؟ وإذا كنت تخشى الأصوليين إلى الحد الذي يجعلهم يشكلون كل تصرفاتك، فما الفائدة منك؟ قل لي شيئًا يا حسني، متى كانت آخر مرة قمت فيها بشيء صعب للغاية بالنسبة لنا أو لعملية السلام؟ ومتى كانت آخر مرة خاطرت فيها بأي شيء؟ حسني، مصر بلد عظيم وفبها شعب عظيم، وقد قمتم بقيادة الطريق نحو السلام مع إسرائيل وكنت عونا كبيرا في حرب الخليج، ولأننا نحترم الدور الذي يمكن أن تلعبوه أنت ومصر، فإننا نشعر بخيبة أمل كبيرة عندما لا تفعلون ذلك. أنك تتصرف وفي كثير من الأحيان وكأننا مدينون لك بشيء لأنك صنعت السلام مع إسرائيل. حسنا خمن ماذا؟ كما يقولون في أركنساس، نحن لا ندين لك بشيء.. فقد انتهت الحرب الباردة ولا نحتاج إلى إبعادك عن السوفييت بعد الآن. والحقيقة هي أنكم مدينون لنا ولشعبكم ببعض القيادة الحقيقية للسلام الإقليمي والديمقراطية المحلية. لقد كنت تجلس لفترة طويلة وتعيش على ماضيك وإرث السادات وحان الوقت للتحرك مرة أخرى. حسني.. أبو الهول واحد في مصر يكفي. مع أطيب التحيات، بيل (كلينتون)
بدأ الرئيس الأمريكي رسالته بوصفها رسالة من صديق إلى صديق لتخفيف وقع الانتقادات اللاذعة التي يوجها لمبارك في الرسالة. لينتقل بشكل مباشر جدا وسريع إلى التهديد في بداية الرسالة حين يقول،” أنت تتزلج هنا على الجليد الرقيق. إن عدد الأشخاص في فريقي للسياسة الخارجية، أو في الكونجرس، الذين لديهم كلمة طيبة يقولونها عنك أو عن مصر اليوم يمكن إحصاؤهم على أصابع اليد الواحدة، وربما ولا على يد واحدة أصلا. المزيد والمزيد من الناس يسألونني: ما الذي نحققه بالضبط من علاقتنا مع مصر – ناهيك عن ثلاثين مليار دولار من المساعدات التي قدمناها لمصر منذ عام 1978″؟
هنا يؤكد كلينتون لمبارك بأن مؤيديه في الإدارة الأمريكية بدأوا في التناقص بسبب الموقف الذي يراه كلينتون وادارته غير متعاون فيما يخص تشجيع مبارك للرئيس الفلسطيني عرفات بالتنازل عن القدس في أثناء مفاوضات قمة كامب ديفيد. ويذكره بأن حزمة المساعدات الأمريكية إلى مصر هي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمدي تطور العلاقات بين مصر وإسرائيل ومساعدة مصر للجانبين الأمريكي والإسرائيلي في الضغط على السلطة الفلسطينية لتقديم تنازلات في المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي بالإضافة إلى قيادة تحالف عربي لدمج إسرائيل في المنطقة العربية فيما يُعرف بسياسات التطبيع.
من ناحية أخرى يلوم كلينتون مبارك على عدم حذوه حذو الملك عبد الثاني ملك الأردن الذي طالب عرفات بتقديم مساعدات بينما مبارك بالاتفاق مع السعودية حثوا الفلسطينيين على عدم تقديم أية تنازلات تخص القدس.
ينتقل كلينتون مباشرةً من المحور الأول الذي يحكم العلاقات المصرية الأمريكية وهو القضية الفلسطينية إلى المحور الثاني الذي يتمثل في الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر حين أشار إلى اعتقال السطات المصرية للدكتور سعد الدين إبراهيم الذي يحمل الجنسية الأمريكية ورئيس مركز ابن خلدون.
انتقد كلينتون حرية الصحافة المصرية وسماح مبارك لها فيما أسماه ” نشر الكراهية ضد إسرائيل ونسج مؤامرات خيالية تقوم بها الولايات المتحدة.
ينتقل الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون بشكل صريح إلى المعادلة التي تحكم العلاقات المصرية الأمريكية حين قال،” ومنذ كامب ديفيد، نحكم على مصر في الولايات المتحدة وفق مقياس واحد فقط: كم انت لطيف مع إسرائيل، وطالما لم تكن معادياً تماماً، فقد قدمنا لك الأعذار وغضضنا الطرف عن فساد نظامك وانعدام الديمقراطية”.
إن اللغة التي كتب بها كلينتون رسالته لمبارك لا تنم أبدًا على ندية التعامل بين رئيسيين لبلدين يجمعهما اتفاق علاقات مشتركة تقوم على الندية والمصالح المشتركة، بل تدل لغة الخطاب، بما لا يدع مجالًا للشك أنها رسالة من آمر إلى مأمور كلفة سيده بمهام متعددة تتمحور حول علاقات طيبة مع إسرائيل والضغط على السلطة الفلسطينية لصالحها: والعمل على ادماج إسرائيل في المنطقة العربية من خلال سياسات تطبيع ساخنة تأتي بنتائج سريعة مباشرة كما كانت تتمنى الولايات المتحدة الأمريكية، ومقابل هذه المهام أو ( الخدمات ) تغض الولايات المتحدة الطرف عن الانتهاكات والفساد والديكتاتورية التي يحكم بها مبارك مصر.
تدفعنا هذه الرسالة للبحث والتنقيب في فحوى العلاقات المصرية الأمريكية على مر التاريخ
نشرت سفارة الولايات المتحدة الأمريكية بالقاهرة مستند حقائق وارد من المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأمريكية جاء فيه:
” تتعاون الولايات المتحدة ومصر بشكل وثيق لتهدئة النزاعات وتعزيز السلام المستدام، بما في ذلك من خلال دعم الوساطة التي تقدمها الأمم المتحدة للمساعدة على إجراء الانتخابات في ليبيا في أقرب وقت ممكن، واستعادة الانتقال السياسي في السودان بقيادة مدنية من خلال الاتفاق السياسي الإطاري. وتشترك الولايات المتحدة ومصر في التزام لا يتزعزع بحل الدولتين المتفاوض عليه باعتباره السبيل الوحيد لتحقيق حل دائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مع تدابير متساوية للأمن، والازدهار، والكرامة للإسرائيليين والفلسطينيين. بناءً على السلام المؤثّر بين مصر وإسرائيل، تتشارك الولايات المتحدة ومصر من أجل تعزيز المزيد من التعاون الإقليمي بوسائط متعددة، بما فيها عملية منتدى النقب. كما أن الولايات المتحدة منخرطة مع مصر والسودان وإثيوبيا، للتوصل إلى حل دبلوماسي سريع بشأن سد النهضة الإثيوبي الكبير الذي يحمي مصالح الأطراف الثلاثة”.
الفقرة السابقة هي الفقرة الرسمية التي تتناولها كلا الدولتين في اللقاءات الدبلوماسية واللقاءات الرسمية، ولكن بعيدًا عن اللغة الرسمية فإن العلاقات المصرية الأمريكية تتمحور على أساسين اثنين وهما
علاقات طيبة وساخنة بين مصر وإسرائيل لضمان أمن الأخيرة ولدمجها في المنطقة العربية
وهذا هو المحور الثاني وهو (الديمقراطية وحقوق الإنسان)، وهنا يجدر بنا الإشارة إلى أن الديمقراطية وحقوق الإنسان هما استراتيجية يبدو وفق المتابعات والتحليل أنه يتم استخدامها فقط لتلبية المصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، حيث نجد أن الولايات المتحدة كثيرًا ما تغض الطرف عن الكثير من الانتهاكات غير المسبوقة، ومنها ما يقع تحت جرائم الحرب التي ارتكبتها السلطات المصرية مقابل تنفيذ السلطات في مصر الرغبات الأمريكية والسياسات المتبعة لخدمة إسرائيل وهو ما يفرض التبعية على مصر. وبكلمات مختصرة نستطيع القول إنه ما دامت مصر تسير على النهج المطلوب لها من قِبل الإدارة الأمريكية فإنه لا حديث عن انتهاكات حقوقية أو ممارسات ديكتاتورية، وتظهر هذه الانتقادات إلى العلن حال محاولة مصر السير خراج الإطار المرسوم لها.
كونداليزا رايس ولقاء عاصف مع مبارك
التقت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس بمبارك في القاهرة عام 2005 وأوردت في مذكراتها الحوار الذي دار بينها وبين مبارك كالتالي
” طَلبت الاجتماع به على انفراد «لكي لا تحرجه أمام مساعديه» وقالت له: «سيدى الرئيس، لديك فرصة لعمل شيء عظيم لبلدك، وليس أمامك وقت طويل لتفعل ذلك لأنهم قريبًا سوف يطلبون ذلك، فافعله الآن». وتتابع رايس رد فعل مبارك، حيث استقام إلى الأمام «وكأنه فرعون»، وقال «إنني أعرف شعبي، المصريون يحتاجون ليد قوية ولكنهم لا يحبون التدخل الأجنبي، إننا شعب فخور»، وتواصل رايس أنها بعد الاستماع لعدة دقائق حاولت أن تناشد كبرياءه وخيلاءه: «بعد خدمة بلدك من الانقسام بعد اغتيال السادات، الآن خذ بلدك إلى الأمام» وحتى لا يفاجأ أخبرته بما سوف تقوله فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، حيث قالت «لفترة 60 عاما فضلت بلدى الولايات المتحدة، الاستقرار على الديمقراطية، ولم نحصل على أي منهما»، وتابعت «الآن إننا نأخذ طريقا مختلفا، إننا نؤيد مطالب الشعب فى الديمقراطية”.
هيلاري كلينتون وثورة يناير 2011
أما هيلارى كلينتون، فإن أهم ما يلفت النظر فى مذكراتها عن التطور في مصر بعد 25 يناير 2011م هو تسجيلها للانقسام داخل الإدارة الأمريكية حول أسلوب التعامل مع هذا التطور ومع إدارة مبارك، فبينما كانت كلينتون ونائب الرئيس ووزير الدفاع ينصحون بالحذر، كان مستشارو أوباما من الشباب يناشدون مثاليته ويطالبونه بأن يفعل شيئا وألا ينتظر الأحداث، وهو ما دفع أوباما خاصة بعد خطاب مبارك المخيب للآمال في أول فبراير، أن يظهر على شاشات التليفزيون لكى يقول «ما هو واضح، وهو ما أبلغته للرئيس مبارك، هو اعتقادي أن انتقالا منتظما يجب أن يكون له معنى.. وأنه يجب أن يبدأ (الآن)»، وعندما سئل المتحدث باسم البيت الأبيض في اليوم التالي عن معنى (الآن) قال «الآن يعنى (الأمس)». ذلك ما يجذب النظر في تقييم كلينتون لنظام الإخوان، حيث قالت: «إنهم فشلوا فى أن يحكموا بطريقة شفافة وشاملة، واصطدم الرئيس مرسى بشكل متكرر مع القضاء، وعمل على تهميش معارضيه السياسيين أكثر من أن يبنى إجماعا قوميا واسعا»، والواقع أن كلينتون فى هذا يكرر ما قاله أوباما فى بيانه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة 2013م حين قال: «نعم، إن الرئيس مرسى قد انتخب ديمقراطيا، إلا أنه لم يحكم بشكل ديمقراطي، وأساء استغلال السلطة”
النظام في مصر قفزة في اتجاه التطبيع بعد انقلاب الثالث من يوليو 2013
كانت إسرائيل من أوائل الدول التي رحبت بانقلاب الثالث من يوليو 2013 الذي قاده وزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح السيسي. ويمكننا القول بأن موقف الرئيس محمد مرسي رحمه الله من حرب إسرائيل على غزة في 2012 وإرساله رئيس الوزراء هشام قنديل يرافقه رئيس مجلس الشعب المنتخب، سعد الكتاتني، على رأس وفد شعبي إلى غزة كانت أهم الأسباب التي دفعت إسرائيل إلى تأييد ومباركة الانقلاب العسكري في مصر. بل إنها قامت بإطلاق حملات دبلوماسية في واشنطن والعواصم الأوروبية الكبرى من أجل دعم الوضع السياسي الجديد في مصر، حتى لا يصنف في خانة الانقلابات العسكرية، وحتى تمنع أي محاولات لفرض حصار دبلوماسي على القاهرة. ولم تمر هذه الجهود دون أن تكلل بالنجاح، حيث شهدت العلاقات المصرية- الإسرائيلية نمو غير مسبوق خلل فترة حكم السيسي، والتي كانت في كثير من الأحيان، مدفوعة من قبل السيسي نفسه.
استند السيسي ونظامه في حربه على الإرهاب في سيناء على شراكة قوية مع إسرائيل، والتي أعطت الضوء الأخضر للقوات المصرية لتنتشر في مناطق واسعة داخل شمال سيناء “المنطقة (ب)، والمنطقة (ج)”، لكي تتمكن من مواجهة الجماعات التكفيرية والمسلحة بالسلاح الثقيل والمدرعات والطلعات الجوية.
استفاد السيسي ونظامه من حالة الفراغ الأيديولوجي لمؤيديه، حيث عمل على إعادة تسويق العلاقات المصرية الإسرائيلية، باعتبارها ضرورة في ظل وجود عدو إقليمي مشترك متمثل في حركة حماس، وهو امتداد لعدو داخلي الإخوان المسلمين، ونقل بذلك إسرائيل من خانة صراع وجود إلى خانة الشريك الضروري.
إن توجه السيسي ونظامه للتقارب العلني مع إسرائيل ليس نابعاً فقط من إيمانه ببرجماتية العلاقة مع الإسرائيليين، وإنما لمروره بأزمات ضخمة داخل مصر، منها: الخصومة مع المعارضة الإسلامية والعلمانية، وتصاعد وتيرة العنف والإرهاب في سيناء والصحراء الغربية، وتباطؤ الاقتصاد المحلي، وتناقص حصة مصر من مياه النيل. كل هذه الأمور دفعت السيسي إلى تجديد زعامته المحلية، من خلال احتلال مساحة دولية كمفاوض في أحد أكثر الملفات الدولية حساسية (مفاوضات السلام الإسرائيلية الفلسطينية)، حتى يساعده ذلك في موقفه المحلي، فيجنبه أي محاولات للإطاحة به. ومع ذلك حل تطبيع بعض الدول العربية مثل الإمارات والسعودية والبحرين في التقارب مع إسرائيل ليكون بديلًا فاعلًا في المنطقة، ومع اتساع الفجوة بين حركة حماس ونظام السيسي، دخلت كلا من قطر وتركيا لتمثل وسيطًا قويًا في المفاوضات.
بعد اقتصار العلاقات المصرية مع إسرائيل لعدة سنوات، على الجانب الأمني والاستخباراتي فقط، أصبحت الدبلوماسية المصرية تتطلع اليوم، إلى دور محوري في تطوير العلاقات المصرية – الإسرائيلية، من خلال تلك الزيارة التي قام بها وزير الخارجية المصري للقدس. ولعل وقوف سامح شكري أثناء تلك الزيارة، إلى جانب رأس تمثال تيودور هرتزل ـ مؤسس الدولة الصهيونية، كان بمثابة تصالح مع تاريخ نشأة إسرائيل، في تناقض مع الأسس التاريخية العربية. وبالطبع، هناك ارتياح إسرائيلي لهذا التحول الرمزي في العلاقات مع مصر، حيث قامت رئاسة الوزراء الإسرائيلية بنشر صورة نتنياهو مع شكري أثناء مشاهدتهما نهائي كأس الأمم الأوروبية، في جو حميمي، يعكس بالطبع، عدم وجود أي تخوف لدى النظام المصري من ردود فعل محلية محتملة حول تطور العلاقات المصرية الإسرائيلية. وعلى الجانب الآخر، يحاول نتنياهو الاستفادة من هذه الزيارة، وإظهارها كإنجاز سياسي له، استطاع من خلاله النجاح في تعزيز علاقة إسرائيل بأكبر عدو تاريخي لها وهو “مصر”. كما أظهرت الزيارة أيضاً، قدرة إسرائيل على نقل علاقتها مع الدول العربية إلى مستوى التحالف العلني، بعيداً عن جلسات الغرف المغلقة.
كيف تنظر إسرائيل لمصر بعد الانقلاب؟
السفير الإسرائيلي الأسبق لدى القاهرة، يتسحاق ليفانون صرح لصحيفة معاريف الإسرائيلية في عام 2020 وقال ” إن السيسي لا يألوا جهدًا من أجل تحسين صورة إسرائيل في المجتمع المصري وتقليل العداوة لها وإبراز الإيجابية في علاقة السلام بين الطرفين. أضاف السفير الإسرائيلي أن الرئيس المصري أعاد حساب مساره، واختار أن يضع مصر في معسكر الولايات المتحدة حيث توجد إسرائيل أيضًا، وذلك في ظل “تعاظم الهيمنة التركية التي وصلت حتى ليبيا، إلى جانب التهديد الإيراني والجماعات الجهادية المسلحة، بما فيها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)”.ختم ليفانون تصريحاته بالقول: “علينا تشجيع جهود الرئيس المصري في تحسين صورة إسرائيل لدى الجمهور المصري. نجاحه في هذا المجال سيسمح لنا مستقبلا بالتقدم تجاه التطبيع. أدواتنا للوصول إلى ذلك هي الدبلوماسية الصامتة التي تكون فيها وزارة الخارجية الإسرائيلية أكثر مهارة”.
تصريحات ليفانون جاءت بعد تصريحات السيسي في سبتمبر 2019 لشبكة CBS الأمريكية والتي قال فيها ” إن التعاون المصري الإسرائيلي في أفضل حالاته خلال هذه الفترة”
الشبكة الإخبارية الأمريكية واسعة الانتشار قالت في تقرير لها إنهم فوجئوا بطلب من السفير المصري بعد وقت قصير من تسجيل اللقاء مع السيسي بطلب عدم بثه. صحيفة نيويورك تايمز قالت إن محاولات الحكومة المصرية منع بث مقابلة الرئيس عبد الفتاح السيسي مع قناة “سي.بي.أس” الأميركية، تعود إلى أنه كشف فيها عن علاقاته السرية مع إسرائيل.
في يوليو 2016 وأثناء احتفال السفارة المصرية في تل أبيب بذكري ثورة يوليو 1952 أشاد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو بدفء العلاقات بين إسرائيل ومصر تحت حكم السيسي. وقال في كلمة ألقاها في الحفل “أود أن أشكر الرئيس السيسي على زعامته وجهوده لدفع السلام بين إسرائيل والفلسطينيين وفي الشرق الأوسط الأوسع.”
لماذا تنامت العلاقات المصرية الإسرائيلية بعد الانقلاب؟
ذكر معهد كارنيجي للسلام الدولي أن قلقُ النظام المصري المسكون بهاجس البقاء هو الذي يُملي في شكل أساسي السياسة الخارجية المصرية في الوقت الراهن. وهكذا، أصبح الهدف الأساسي للسياسة الخارجية المصرية الحصول على حلفاء يمكنهم المساعدة على التخلص من الاضطرابات الداخلية المحتملة، أو على تدعيم النظام. وقد ساهمت كل من السعودية والإمارات، عن طريق المساعدات المالية والاستثمارات، وإسرائيل، من خلال التعاون الأمني والمساعي الضاغطة في واشنطن، في مساعدة السيسي على تعزيز مكانته. بيد أن التحول في أهداف السياسة الخارجية المصرية أجهز فعلياً على قدرة البلاد على تأدية دور الوساطة في أي عملية سلام محتملة، ما يزيد الأوضاع سوءاً بالنسبة إلى الفلسطينيين.
علاقة النظام العسكري بإسرائيل جعلت الولايات المتحدة تغض الطرف عن جرائم وانتهاكات غير مسبوقة
كان الأثر المباشر للعلاقات الدافئة بين السيسي وإسرائيل هو غض الولايات المتحدة الأمريكية الطرف عن انتهاكات غير مسبوقة ارتكبها نظام السيسي في مصر ضد معارضيه للدرجة التي يمكن من خلالها القول إن الولايات المتحدة لم تغض الطرف عن انتهاكات جسيمة، بل إنها غضت الطرف عن جرائم حرب إنسانية في المقام الأول.
لم تحرك الإدارة الأمريكية ساكنًا في وجه السيسي الي ارتكب جرائم ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ولم يتعدى رد الفعل الأمريكي مجرد بيانات لا تغني ولا تعيد للضحايا حقوقهم في الوقت الذي رحبت به الإدارات المتعاقبة بسياسات السيسي.
تصدر الخارجية الأمريكية تقريرًا سنويًا عن حالة حقوق الإنسان في مختلف دول العالم ومنها مصر ولكن لم يحدث أن رأينا أن الحقائق التي يتم ذكرها في هذه التقارير تنزل على أرض الواقع ولم تقم الولايات المتحدة بالضغط على السيسي لتحسين الحالة الحقوقية في مصر.
إن العلاقات الدافئة التي أسسها السيسي مع إسرائيل حمته من الحملات التي أطلقها مدافعون عن حقوق الإنسان ومنظمات حقوقية دولية طالبت فيها الولايات المتحدة الأمريكية بحجب المساعدات الأمريكية لمصر على ضوء الانتهاكات غير المسبوقة التي يرتكبها النظام الحاكم بقيادة عبد الفتاح السيسي، ولولا المناصرة ومدافعة اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة لكان بقاء السيسي على رأس السلطة محل شك.
لقد ساعدت علاقات السيسي الجيدة مع إسرائيل وبالتالي مع الولايات المتحدة الأمريكية الحكومة المصرية على التعاقد مع نديم الشامي، الرئيس السابق لموظفي رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي (ديمقراطية-كاليفورنيا)، هو عضو جماعة ضغط في شركة “براونشتاين حياة فاربر شريك” (BHFS)، حيث يعمل كوكيل أجنبي يمثل مصالح الحكومة المصرية. يقود الحكومة المصرية عبد الفتاح السيسي،. تواصل الحكومة المصرية وجماعات الضغط التابعة لها الضغط على الولايات المتحدة من أجل صرف مليارات الدولارات من المساعدات العسكرية والاقتصادية، على الرغم من انتشار انتهاكات حقوق الإنسان الممنهجة في البلاد، كما وثقتها وزارة الخارجية الأمريكية في تقريرها القُطري السنوي حول حقوق الإنسان. تعاقدت الحكومة المصرية مع شركة (BHFS) لأول مرة لتمثيلها في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، ودفعت للشركة رسومًا شهرية قدرها 65,000 دولار.
وقال تقرير لمنظمة DAWN الحقوقية الدولية في واشنطن
“منذ الإطاحة بالحكومة المصرية المنتخبة ديمقراطيًا في عام 2013، غرقت البلاد في أزمة حقوقية لا مثيل لها في التاريخ المصري الحديث. الحكومة مسؤولة عن ثاني أكبر عملية قتل جماعي للمتظاهرين في العالم، حيث قتلت حوالي 1,150 مصريًا في ميدان رابعة والنهضة في أغسطس/آب 2013. وقد اعتقلت الحكومة المصرية التي يسيطر عليها الجيش عشرات الآلاف من المصريين الذين تم اعتبارهم منتقدين بشدة للحكومة، وقد تمت الاعتقالات بسبب الانتماء السياسي أو لمجرد الانخراط في الكتابة المستقلة والكلام. وتم تنفيذ العديد من عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء وتعذيب المعتقلين، لا سيما في سيناء، حيث انخرطت الحكومة في نزاع مسلح ضد الجماعات المسلحة هناك منذ ما يقرب من عشر سنوات، وهدمت آلاف المنازل وفدادين من الأراضي الزراعية. لجأت الحكومة إلى الإخفاء القسري دون أي مظهر من مظاهر الإجراءات القانونية الواجبة، وجددت إلى ما لا نهاية “الحبس الاحتياطي” لآلاف المعتقلين والذي استمر في كثير من الحالات لأكثر من خمس سنوات. يفتقر القضاء المصري إلى الاستقلالية، ويصدر أحكامًا طويلة بالسجن وحتى أحكام الإعدام الجماعية مع القليل من المراجعة في محاكمات مسيّسة للغاية. أدت الظروف اللاإنسانية في السجون إلى مقتل العشرات من المعتقلين. أغلقت الحكومة مئات من منظمات المجتمع المدني ومنصات النشر الإخبارية، وسجنت الصحفيين ومحققي حقوق الإنسان والكتّاب والفنانين والممثلين، وأصدرت قوانين صارمة بشأن “الجرائم الإلكترونية” و “مكافحة الإرهاب” مع أحكام صارمة تتعلق بالاحتجاج والتجمع والتعبير. تحرك الجيش لممارسة السيطرة على كل أركان الحكومة المدنية تقريبًا والعديد من الوظائف الاقتصادية. ومع ذلك، فإن الحكومة المصرية هي واحدة من أكبر المتلقين للمساعدات العسكرية الأجنبية من الولايات المتحدة، حيث تتلقى في المتوسط 1.3 مليار دولار سنويًا منذ عام 1987، في شكل أسلحة أمريكية الصنع بشكل أساسي. على مدى العقدين الماضيين، سعى أعضاء في الكونغرس الأمريكي إلى تقييد هذه المساعدات أو وضع شروط لها، خاصة في السنوات الأخيرة، في ضوء حملة الحكومة المصرية غير المسبوقة على حرية التعبير والحقوق المدنية والسياسية. وبدلًا من إنهاء أو على الأقل التخفيف من هذه الانتهاكات، تقوم الحكومة المصرية بصرف الأموال في جهود الضغط لضمان استمرارها في تلقي المساعدات الأمريكية، على الرغم من فشلها في تلبية الحد الأدنى من معايير حقوق الإنسان التي حددها الكونغرس وقانون الولايات المتحدة لتلقي هذه المساعدات”.
خاتمة
لا تخضع العلاقات المصرية الأمريكية لأسس علاقات الشراكة بين بلدين تهدف إلى تحقيق صالح البلدين، وإنما تخضع في المقام الأول إلى شكل وتطور العلاقة بين السلطة في مصر وسلطات الاحتلال في فلسطين المحتلة، فكلما كانت العلاقات المصرية مع إسرائيل دافئة وساخنة كعلاقات السيسي ونظامه معها اليوم، غضت الولايات المتحدة الامريكية الطرف عن الانتهاكات الممنهجة التي ترتكبها السلطات في مصر حتى وإن تم تصنيف هذه الانتهاكات على أنها جرائم ضد الإنسانية. وملخص القول إن السيسي ونظامه أدرك قواعد اللعبة(التبعية) منذ أن حصل دبلوم الدراسات العسكرية في تسعينات القرن الماضي، فلعب ولايزال يقوم بدوره على الوجه الأكمل، ليس لصالح الأمن القومي، أو المصريين، وإنما لصالح بقائه في سدة الحكم في مصر.